طفولة للبيع.. كيف تؤثر الشهرة على أطفال الإنفلونسرز في مصر؟

في أحد مقاطع الفيديو التي حققت ملايين المشاهدات على “تيك توك”، طفل لا يتجاوز الخامسة، يظهر وهو يرقص على أنغام موسيقى شهيرة، كان يرتدي زيًّا لامعًا، ويقف في منتصف غرفة مضاءة بإضاءة تصوير احترافية، يُطلب منه أن يبتسم، أن يرقص، أن يعيد المشهد مرةً أخرى لأن اللقطة مش مضبوطة.في الخلفية تقف الأم وهي تمسك الهاتف، تكرر التعليمات، وتوجّه الابتسامات، بينما يجلس الأب على الجانب الآخر من الغرفة منشغلاً بكتابة التعليقات واختيار الهاشتاجات المناسبة.بعد دقائق، يُنشر الفيديو وتبدأ المشاهدات والتعليقات في التزاحم بين إعجاب وسخرية وانتقادات، لم يختر الطفل أن يكون نجمًا، لكنه وجد نفسه في تريند لا يتوقف، وكأنه يؤدي دورًا لا يناسب سنه ولا يفهم أبعاده.أصبح هذا المشهد واقع متكرر على منصات التواصل الاجتماعي، أطفال يتحولون إلى نجوم افتراضيين، يظهرون يوميًا في مقاطع مرحة، إعلانية، أو حتى مثيرة للجدل، يتابعهم من مختلف بلدان العالم ويُشاركون في حملات إعلانية تُدر دخلاً قد لا يحلم به كثير من البالغين. خلف هذه الأضواء، تظهر الكثير من الأسئلة، مثل:- هل يعيش هؤلاء الأطفال طفولتهم فعلاً؟هل الشهرة تساهم في بناء هويتهم أم تُفقدهم جوهرهم البرئ؟ هل هم نجوم أم ضحايا؟ من يحميهم إذا تجاوزت الشهرة حدود طفولتهم البريئة؟
الآثار النفسية على أطفال الإنفلونسرز
بعدما أصبح الأطفال في مصر جزءًا من ثقافة “الإنفلونسرز” على منصات التواصل الاجتماعي، بدأت التساؤلات حول التأثيرات النفسية التي قد تترتب على هذا الواقع الجديد، وهذا لان الشخصية النامية للطفل تتأثر بشكل مباشر بالمحيط الذي ينشأ فيه، ومن المفترض أن تكون مرحلة الطفولة مليئة باللعب والاكتشاف والتجارب العفوية.في حالة أطفال الإنفلونسرز، يُستبدل هذا المحيط ببيئة قائمة على الأداء المستمر أمام الكاميرا، وتكرار المشهد أكثر من مرة حتى يُرضي الجمهور، مما يجعل الطفل مع الوقت يقيس نجاحه من خلال التقييم المستمر من الغرباء المتمثل في عدد الإعجابات والمشاهدات، مما يؤثر على استقراره النفسي.وفي هذا السياق، أكدت الدكتورة “جين أوكونور” الباحثة في دراسات الطفولة، بجامعة برمنغهام سيتي، في حوار لها مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC ،على أن الشهرة في سن الطفولة تبدو إيجابية في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها مخاطر نفسية جسيمة، اذ لم تؤخذ اثارها ونتائجها النفسية والعقلية على الأطفال في الاعتبار، واضافت اوكونور أيضا بأن أحد أبرز الآثار السلبية للشهرة على الأطفال هو إرباك ديناميكية النمو العقلي والنفسي لكثرة الإشادة بالطفل المشهور من ناحية، وحرمانه من الحياة الطفولية الطبيعية من ناحية أخرى، فضلًا عن إبقائه تحت ضغط مستمر من التقييم والمقارنة.يفتقد أطفال الإنفلونسرز الروابط الاجتماعية الحقيقية والتفاعل الطبيعي مع أقرانهم، فقد أشارت الدكتورة مارتينا كارترايت، في دراستها التي نُشرت بمجلة Psychology Today، بعنوان الجانب القبيح من شهرة الأطفال، إلى أن الشهرة المبكرة قد تزرع في نفوس الأطفال مشاعر مختلطة، فبينما يحصلون على اهتمام واسع وإعجاب من جمهور لا يعرفونه، يبدأون في قياس قيمتهم بناءً على عدد الإعجابات والتعليقات. مما يفقدهم تدريجيًا الشعور بذواتهم الحقيقية، وأوضحت الدراسة أن الأطفال في هذه الحالة قد يصبحون ضحايا لما يُعرف بـ”تحقيق الإنجاز بالوكالة”، حيث يسعى الأهل إلى تحقيق طموحاتهم الشخصية من خلال أبنائهم، مما يضع الطفل تحت ضغط دائم للأداء للظهور بمظهر مثالي لأرضاء اسرته وجمهوره، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب، خاصة اذا سيطر الاستغلال وغاب التوازن العاطفي والدعم الأسرى.
الآثار القانونية على أطفال الإنفلونسرز
ظهور الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي واستخدامهم كوسيلة لتحقيق الربح قد أثار العديد من التحديات القانونية التي لا يمكن تجاهلها، لذلك أصبحنا أمام حاجة ملحة لتطوير إطار قانوني يواكب هذا الواقع الجديد ويحمي حقوق الأطفال من الاستغلال، خاصة لان الأطفال تحت الـ 18 عامًا سن البلوغ، لا يمتلكون الاهلية القانونية لاتخاذ قرارات تؤثر على حياتهم المهنية والشخصية، بما في ذلك قرارات الظهور الإعلامي أو المشاركة في الأنشطة التجارية الاعلانية، وأيضا لا يمتلكون القدرة على فهم العواقب القانونية والمالية التي قد تترتب على أعمالهم على منصات التواصل الاجتماعي، ولا يستطيعون تقييم المخاطر المحتملة لهذه الأنشطة سواء من الناحية النفسية أو المالية، ومن هنا تأتي أهمية وضع قوانين تحميهم من الاستغلال التجاري، وتضمن حقوقهم القانونية خاصة إذا كان الأهل يستغلونهم بدلاً من حمايتهم.نشرت الدكتورة جين أوكونور، الباحثة في دراسات الطفولة، بجامعة برمنغهام سيتي، دراسة بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي، الأطفال المؤثرون، وتغير الخطاب حول الطفولة” في دورية “Children’s Media Yearbook” التابعة لمؤسسة وسائل الإعلام للأطفال في عام 2024، واكدت أوكونور ان في بعض الحالات قد يتم استغلال الأطفال من قبل الوالدين أنفسهم، فقد يضغط الأهل على أطفالهم لإنتاج محتوى على منصات التواصل الاجتماعي او توقيع عقود لإعلانات تجارية بهدف زيادة دخلهم الشخصي على حساب الطفل، لذلك أوضحت أوكونور أن هذه الممارسات قد تُعتبر إساءة استغلالية للطفل وطفولته، وهذا ما يعني أن الحاجة لقوانين تنظيمية تحمي الأطفال من هذه الأنواع من الاستغلال باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
من التريند إلى المحكمة.. عندما تحولت الكاميرا إلى دليل إدانة
في بعض الأحيان قد تتحول هذه الشهرة إلى مشاكل قانونية، خاصة إذا ما تم استغلال الأطفال لأغراض تجارية أو لترويج محتوى يضر بمصلحتهم الشخصية أو النفسية التي لا يكونون على دراية بهذا الضرر، لذلك في هذا الجزء، نستعرض بعض الحالات في مصر التي أخذت فيها الشهرة على منصات التواصل الاجتماعي الأطفال إلى ساحات القضاء، وتحولت الكاميرا من مجرد أداة عرض إلى دليل إدانة.
قضية «أحمد حسن وزينب».. ترويع الأطفال من أجل الشهرة
في إحدى الفيديوهات المثيرة للجدل، قام الزوجان احمد وزينب بتصوير طفلتهما الصغيرة “إيلين” في موقف يثير الخوف، حيث كان يتم ترويعها وإثارة خوفها في محاولة لجذب المشاهدات وتحقيق تفاعل أكبر مع الفيديو، هذا التصرف أثار جدلاً واسعًا بين متابعيهم على الانترنت، حيث اعتبره الكثيرون استغلالًا غير إنساني لطفلتهم من أجل تحقيق مكاسب شخصية.وقامت النيابة العامة بفتح تحقيق رسمي في هذه القضية، حيث تم اتهام الزوجين أحمد حسن وزينب بتهمة “ترويع الأطفال” و”استغلالهم في المحتوى الرقمي” بغرض تحقيق الربح الشخصي على حساب مشاعر الأطفال ورفاهيتهم.في سبتمبر 2020، أصدرت المحكمة حكمًا بحبس أحمد حسن وزينب لمدة 4 أيام احتياطيًا على ذمة التحقيق، بالإضافة إلى غرامات مالية كبيرة، وذلك بتهمة تعريض الأطفال للخطر والتسبب في أضرار نفسية لهم من خلال نشر محتوى يروج للخوف والتوتر النفسي، كما تم فرض عقوبات أخرى شملت منعهم من استخدام منصات التواصل الاجتماعي لفترة زمنية محددة، وذلك في محاولة للحد من تأثيرهم على الجمهور وحماية الأطفال من مثل هذه الممارسات.
قضية «أم زياد وهبة».. الاتجار بالبشر من خلال المحتوى الرقمي
واحدة من أبرز القضايا التي شهدتها مصر، تحولت فيها شهرة البلوجر “أم زياد وهبة” من تريند يومي على مواقع التواصل الاجتماعي إلى حكم قضائي بالسجن المشدد، بعدما قامت هبة السيد، المعروفة بهذا الاسم، بنشر مقاطع فيديو عبر قناتها على يوتيوب تتضمن محتوى يتناول الحياة الخاصة لأطفالها بما يتجاوز حدود المعقول، مما أثار جدلًا واسعًا على الإنترنت أدى الى غضب واستياء كبير من الرأي العام، ودفع النيابة العامة لفتح تحقيق رسمي في هذه الواقعة.في نوفمبر 2023، أصدرت محكمة الجنايات المختصة بجرائم الاتجار بالبشر، والمنعقدة بمجمع محاكم وادي النطرون، حكمًا على هبة السيد، المعروفة باسم “أم زياد”، بالسجن المشدد لمدة 7 سنوات، بالإضافة إلى غرامة مالية قدرها 200 ألف جنيه، وذلك بعد اتهامها رسميًا بارتكاب جريمة الاتجار بالبشر واستغلال أطفالها القصر في محتوى رقمي بهدف تحقيق أرباح مالية.لم تكن هبة وحدها في قفص الاتهام؛ فقد صدر أيضًا حكم بالسجن المشدد غيابيًا لمدة 10 سنوات على ابنها محمد حمدي عبد المجيد أحمد، وتغريمه 200 ألف جنيه، وحُكم على زوجها الثاني حسن سمير محمود محمد مشالي، بالسجن المؤبد غيابيًا وتغريمه 500 ألف جنيه.والجدير بالذكر أن هذه القضية شكلت سابقة قانونية في مصر، وهذا لتطبيق قانون مكافحة الاتجار بالبشر لأول مرة على محتوى رقمي يُظهر استغلالًا مباشرًا للأطفال، مما يؤكد على الحاجة المُلحّة إلى إطار تشريعي واضح ينظم ظهور القصر على منصات التواصل الاجتماعي، ويضع حدودًا فاصلة بين المحتوى العائلي والمحتوى الاستغلالي الذي يسعى وراء الربح على حساب طفولتهم البريئة.
الشهرة المبكرة وحماية أطفال الإنفلونسرز.. آراء المتخصصين
بعدما تم تسليط الضوء على التأثيرات العميقة للشهرة المبكرة على الأطفال، وعرض بعض الحالات المتضررة من هذه الظاهرة، تأتي أهمية الآراء المتخصصة من علماء النفس وأخصائيي دراسات الطفولة كإجابة حاسمة للتساؤلات التي تم طرحها في البداية، ومن خلال الاستماع إلى هؤلاء الخبراء، نصبح قادرين على فهم الأبعاد النفسية والاجتماعية لشهرة الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي بشكل أعمق، وفهم تأثير هذه الشهرة على نموهم الطبيعي.وفي هذا السياق، نستعرض آراء مجموعة من المتخصصين الذين قدموا اراءهم حول كيفية حماية أطفال الإنفلونسرز من الاستغلال والتأثيرات السلبية لهذه الظاهرة.في إحدى حلقات بودكاست شهير، تناولت الدكتورة سارة العبد الكريم، الأستاذ المساعد في قسم الطفولة المبكرة بجامعة الملك سعود، موضوع تأثير الشهرة المبكرة على الأطفال، حيث أشارت إلى أن الأطفال الذين يظهرون على منصات التواصل الاجتماعي لا يعيشون طفولتهم بالمعنى التقليدي بل يصبحون جزءًا من أداة تجارية تُستخدم لتحقيق مكاسب مادية على حساب راحتهم النفسية.وأكدت أنه يجب ترك الأطفال يختارون اذا كان يرغبون المشاركة في هذا المجال ام لا، وذلك في إشارة منها الى ان هناك منافع لشهرة الأطفال، منها إشباع رغبته في الحصول على الاهتمام، أو أن يكون لديه موهبة ويقدمها مما يساهم في تعزيز شخصيته، ولكنها في تلك الحالتين فهي شدت على أهمية دور الأسرة في حماية نفسية الطفل من النفوس المريضة، التي قد تكتب تعليقات قد تؤذي الطفل، موضحة ضرورة وضع حدود واضحة لاستخدام الأطفال في المحتوى الرقمي حيث تقول: “يجب على الأسرة أن تكون حائط صد أمام هذه الضغوط، وأن تضع حدودًا واضحة لاستخدام الأطفال في المحتوى الرقمي، مع مراعاة مصلحة الطفل أولًا”.وأكد الدكتور خالد العمري، إخصائي إرشاد وتوجيه بمركز الإرشاد الطلابي بجامعة السلطان قابوس، على ما ذكرته الدكتورة سارة العبد الكريم، أن الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي تولد مشاعر إيجابية قوية ونمو وتطور في مفهوم الذات بشكل متسارع لدى الطفل، ولكن مع ذلك قد لا يكون ذلك متناسباً مع المرحلة العمرية وخصائص التكوين النفسي للطفل في مرحلة الطفولة، ولكنه يضيف العمري ان الشهرة المبكرة تؤدي إلى تأثيرات سلبية على نفسية الأطفال، حيث يحدث ضغط نفسي على الطفل نتيجة تعرضه لموقف تقييمي مستمر ومنافسة مرهقة من قبل الآخرين، مما يؤثر على ثقته بنفسه ويسبب له مشاعر الإحباط والغضب بعد انطفاء الأضواء عنه وتغير اهتمام المتابعين ناحيته.