تجمعها جدران وتفرقها شاشات.. هكذا غيّرت التكنولوجيا شكل الأسرة ودفء العلاقات

تجمعها جدران وتفرقها شاشات.. هكذا غيّرت التكنولوجيا شكل الأسرة ودفء العلاقات

في زمنٍ لم تعد فيه الأحاديث تُروى وجهًا لوجه، ولا الضحكات تُشارك على مائدة واحدة، باتت الأسرة ـ بكل قيمها ومكوناتها ـ تُهدَّد في صميمها، لا بحربٍ أو فقر، بل بجهاز صغير في راحة اليد: الهاتف الذكي.منذ سنوات قليلة، دخلت التكنولوجيا حياتنا كضيفٍ خفيف، نُسخِّره للدراسة والعمل وتيسير التواصل. لكن الضيف تمدد، وسيطر، واحتل المساحات الأهم: القلوب، والأحاديث، والعلاقات. فتحولت البيوت إلى غرفٍ صامتة، تجمعها الجدران وتفرّقها الشاشات.

التكنولوجيا.. أداة تحوّلت إلى إدمان

حين بدأت الهواتف الذكية والإنترنت في الانتشار، كانت الغاية تسهيل الحياة: مكالمات مجانية، رسائل فورية، صور وفيديوهات تُختصر فيها المسافات. لم نكن نعي أننا نفتح الباب لمنظومة ضخمة ستغير مفهوم الوقت، والاهتمام، والحوار، وتعيد تشكيل علاقاتنا بشكل عميق.تقول «سارة»، وهي أم لثلاثة أبناء في المرحلة الثانوية: «أجلس مع أولادي على نفس المائدة، لكن لا أحد فيهم ينظر للآخر. الكل منشغل بهاتفه. أحيانًا أطلب شيئًا منهم عبر رسالة واتساب، رغم أننا في نفس البيت».ولا تختلف شكوى «سارة» عن آلاف الأمهات والآباء الذين يشعرون بأن أبناءهم صاروا غرباء عنهم، يعيشون في عالم آخر تملكه التكنولوجيا، حيث الحوارات مختصرة، والمشاعر مشفّرة، والعلاقات سطحية.

جيل Gen-Z.. أبناء التكنولوجيا

الجيل الجديد، المعروف باسم Gen-Z، وُلد وتربى في كنف التكنولوجيا. لم يعرفوا زمن المقاهي العائلية، ولا رسائل البريد الورقي، ولا السهرات على ضوء التلفاز الجماعي. هُم أبناء الشاشات، والسرعات، والإشعارات. وهم أول جيل يُعبّر عن الحب بـ «إضافة»، والخصام بـ «حظر»، والتجاهل بـ «تمت المشاهدة».وفقًا لدراسة صادرة عن جامعة ميشيغان عام 2023، فإن أكثر من ثلث الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 50 و80 عامًا يعانون من الوحدة، رغم استخدامهم المتكرر لمواقع التواصل الاجتماعي.

تواصل رقمي واسع.. ووحدة حقيقية أوسع.

أما في تقرير صادر عن الكلية الأمريكية لطب الأطفال (ACPeds)، فتبين أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عامًا يقضون ما لا يقل عن 5 ساعات يوميًا أمام الشاشات، والمراهقين من 13 إلى 18 عامًا يصلون إلى 7.5 ساعات، دون احتساب وقت الدراسة.

Like بديلًا عن الحُب.. وSeen نهاية للحوار

تشرح «هالة»، الأخصائية النفسية، الظاهرة بقولها، إن «ما نراه اليوم هو انزلاق تدريجي من التفاعل الحقيقي إلى الرقمي. لم تعد هناك مشاعر تُعاش بصدق، بل كلها رموز: قلب أحمر، وجه مبتسم، تعليق سريع. وكلما زاد الاستخدام، قلّت الرغبة في التفاعل الإنساني، وأصبح الفرد أسيرًا لشبكة ظاهرها الحرية وباطنها العزلة».ولا تقتصر المشكلة على الجيل الأصغر فقط، بل بات الكبار أيضًا فريسة لإدمان التكنولوجيا. فكم من زوجين يجلسان معًا دون حديث؟ وكم من أم تعوض غيابها بـ «تاج» لابنتها على فيسبوك؟!

البيت الواحد.. والغرباء الجالسون معًا

أصبح مشهد العائلة التي يجلس كل فرد منها في ركن خاص به، ممسكًا بجهازه، مألوفًا. لا لقاءات أسبوعية، ولا أحاديث عابرة، ولا حتى مشاجرات بسيطة كانت تُحرك المياه الراكدة. حلّت الرسائل النصية محل السؤال، و«الاستوري» محل التواصل المباشر، وصار الكثيرون يشعرون أن عائلاتهم لا تفهمهم، بينما «الخوارزميات» تفعل.ورغم الصورة القاتمة، لا يدعو الخبراء إلى محاربة التكنولوجيا، بل إلى ترشيد استخدامها. فالهاتف في حد ذاته ليس شرًا، بل طريقة الاستخدام هي ما يحدد أثره، لذلك يؤكد يؤكد الخبراء أن الحل لا يكون بإخفاء الأجهزة، بل بخلق بيئة أسرية حقيقية، تشجع على الحوار، وتخصص وقتًا ثابتًا للعائلة دون شاشات. لا بد أن تعود جلسات الجمعة، والأحاديث الصباحية، وحتى الخلافات التلقائية، فكلها علامات على حياة حقيقية.تقول الدكتورة ندى فؤاد، استشارية العلاقات الأسرية لـ الجمهور: «نحتاج إلى تجديد العلاقة بين الآباء والأبناء على أساس من الوعي، وليس القمع. على الأهل أن يكونوا جزءًا من العالم الرقمي لأبنائهم، لا خصومًا له».وعلى ما يبدو فلم تعد التكنولوجيا خيارًا أو رفاهية، بل واقعًا متجذرًا في كل بيت. لكن، ومع هذا لا يزال الاختيار في الإمكان، بين أن نكون أُسرًا تعيش في زمن التقنية دون أن تفقد روحها، أو أن نصبح أفرادًا يتشاركون المكان ويعيشون في عزلة؛ فالحل يبدأ من لحظة صدق، نضع فيها الهاتف جانبًا، ونسأل ببساطة: «كيف كان يومك؟ قد تكون الإجابة بداية استعادة ما فقدناه».