الدراما بين التأثير والخيال.. كيف تشكل الرأي العام؟

الدراما بين التأثير والخيال.. كيف تشكل الرأي العام؟

تُعد الدراما مرآةً تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع، إذ تلعب دورًا بارزًا في تسليط الضوء على قضايا المرأة والرجل على حد سواء، وكلما تلامست مع هموم الجمهور وواقعه، زاد تأثيرها ونجاحها، لتصبح أداة فعالة في تحريك الرأي العام وخلق حالة من الجدل أو التغيير أحيانًا.لكن، السؤال يظل مطروحًا: إلى أي مدى يمكن للدراما أن تؤثر في سلوك الجمهور ومواقفه؟في عام 1996، قدمت الفنانة نبيلة عبيد فيلم “المرأة والساطور”، الذي استند إلى قصة حقيقية وقعت في الإسكندرية عام 1989، حين قتلت سيدة زوجها ومزقت جثته، فحُكم عليها بالسجن 15 عامًا. واختتم الفيلم بعبارة صادمة: “ليس كل قاتل مذنبًا، وليس كل قتيل بريئًا”، وهو ما أثار جدلًا طويلًا حول الرسائل الأخلاقية التي تنقلها الأعمال الدرامية.وبالفعل، شهدت السنوات التالية وقوع جرائم مشابهة لتلك التي عُرضت في الفيلم، كان أبرزها في عام 2024، حين قتلت سيدة تُدعى “نصرة” زوجها في محافظة قنا، مبررة فعلتها بتعرضها للعنف وسرقة أموالها على يد الزوج، بطريقة مشابهة تمامًا لما حدث في الفيلم، مما أثار تساؤلات جديدة حول علاقة الدراما بسلوكيات الأفراد.وفي عام 2018، أثار مسلسل “أيوب” عاصفة من الانتقادات، بعد عرض مشهد مروّع في الحلقة الرابعة والعشرين، حيث قامت زوجتا شخصية “حسن الوحش” بتخديره وقتله، ثم إذابة جثته في الحمام باستخدام محلول كيميائي.واعتبر المشاهدون والنقّاد، هذا المشهد صادمًا ومقززًا، خاصة لكونه عُرض في دراما رمضانية. بل وصل الأمر إلى تقديم بلاغ رسمي للنائب العام، اتهم فيه أحد المحامين صنّاع المسلسل بالتحريض على العنف والقتل، معتبرًا أن ما عُرض يُهدد الأمن والسلم الاجتماعي ويُروّج لأفكار هدامة.وتزايد الاهتمام مؤخرًا بالدراما الواقعية التي تسرد جرائم وقصصًا مستوحاة من الواقع، مثل مسلسلات “ساعته وتاريخه”، “سفاح الجيزة”، و”حدث بالفعل”، والتي ناقشت قضايا نفسية وأسرية حساسة أثارت نقاشًا مجتمعيًا واسعًا.في مسلسل “ساعته وتاريخه”، تناول العمل العنف الأسري والقتل بدافع الانتقام، وناقش اضطرابات نفسية نتجت عن الوحدة والعزلة. إحدى الحلقات صورت سيدة مسنة تقتل جارتها بسبب رفض الأخيرة لها على وسائل التواصل الاجتماعي، في مشهد صادم دفع المختصين للحديث عن خطورة العزلة وتأثيرها النفسي.أما مسلسل “سفاح الجيزة”، فاستند إلى قصة حقيقية لسفاح ارتكب جرائم قتل متسلسلة.ويرى خبراء أن هذا النوع من الدراما قد يؤثر سلبًا على ذوي النفوس الضعيفة أو من يعانون من اضطرابات، ما قد يدفع بعضهم إلى تقليد الجرائم، مؤكدين في الوقت ذاته على أهمية إظهار العقوبة بوضوح حتى لا يتحول المجرم إلى بطل درامي.في حين قدّم مسلسل “حدث بالفعل” مجموعة قصص مستوحاة من الواقع، منها أم تقتل خطيبة ابنها خوفًا من فقدانه، وابنة تقتل والدها انتقامًا لأمها. وسلط العمل الضوء على العقد النفسية والمشكلات الأسرية، مما ساهم في تعزيز وعي الجمهور بالقضايا النفسية وأهمية معالجتها.ورغم أن الجهات الأمنية لا تمتلك أدلة قاطعة على وجود علاقة مباشرة بين هذه الأعمال وارتفاع معدلات الجريمة، إلا أن المختصين يحذرون من خطورة التكرار المفرط لمشاهد العنف والقتل، خاصة على الأطفال والمراهقين، إذ قد تؤدي إلى تطبيع هذه السلوكيات وتقليدها في الواقع.وفي رمضان 2025، جاء مسلسل “ولاد الشمس” ليؤكد قوة تأثير الدراما في تحريك الرأي العام، حيث ناقش قضايا حساسة متعلقة بالأطفال في دور الرعاية، مثل الإهمال والاستغلال والتخلي عن الأطفال بعد تبنيهم في أسر بديلة. وقد تفاعل الجمهور بشكل واسع مع القضية، مما دفع وزارة التضامن الاجتماعي إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، تمثلت في فرض غرامة مالية على الأسر التي تتخلى عن الأطفال بعد كفالتهم، وتكثيف الرقابة على دور الأيتام، إلى جانب إطلاق برامج تدريبية للأسر البديلة لتوعيتهم باحتياجات الأطفال النفسية.هذا التأثير الإيجابي للدراما ظهر بوضوح أيضًا في مسلسل “لام شمسية”، والذي أعاد قضية الطفل ياسين إلى الواجهة، حيث تداولت وسائل التواصل صرخات تطالب بالعدالة، مما دفع الجهات القضائية إلى التحرك السريع واتخاذ إجراءات قانونية في وقت قياسي. ولكن رغم ما أحدثه المسلسل من تفاعل، فقد تبيّن أن الشرارة التي أشعلت الرأي العام كانت مستندة إلى منشور كتبته نهاد القطب، التي أقرت لاحقًا بأنها لا تعرف الأم من الأساس، ولم تكن لها أي علاقة بالقضية، بل كتبت منشورها من وحي خيالها، وقالت نصًا: “أنا مش صاحبة الأم ولا أعرفها أصلًا، وأنا اللي حركت الرأي العام وجبت حق الطفل عشان كان هيضيع… الحوار كله من تأليفي وإخراجي”.هذا الاعتراف أثار صدمة واسعة، إذ تحول التفاعل الشعبي إلى حالة من الغضب، ليس فقط لأن القصة مختلقة، بل لأنها استغلت مشاعر الناس واستمالتهم عاطفيًا في قضية حساسة جدًا. وهو ما يبرز الجانب السلبي للدراما أو للمنشورات المستوحاة منها، حين تخرج عن إطار الحقيقة لتصنع واقعًا مزيفًا يُستغل في تحريك الجماهير.وفي نهاية المطاف، تبقى الدراما سلاحًا ذا حدين، إما أن تُستخدم لرفع الوعي وتسليط الضوء على قضايا مجتمعية مهمة، أو أن تُسهم في ترسيخ السلبية والعنف والارتباك المجتمعي إذا لم تُقدَّم بحذر ومسؤولية. وهنا تتجلى أهمية الدور الأخلاقي والفني لصنّاع الدراما، في تقديم محتوى يعالج الواقع دون أن يشوهه، ويحرك المشاعر دون أن يضلل الجمهور.