ابتزاز بمليارات الدولارات.. كيف أخضع «ترامب» المؤسسات وأعاد تشكيلها؟

منذ تولّيه الحكم في يناير 2025، وفي ظل التصعيد المتواصل في غزة وانحيازه الواضح للجانب الإسرائيلي، بدأ الرئيس دونالد ترامب في اتخاذ سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى إحكام سيطرته على المؤسسات الأمريكية، سواء كانت حكومية أو غير حكومية. استخدم التمويل كأداة محورية لتحقيق هذا الهدف، معتمدًا على إعادة تشكيل خريطة المخصصات المالية كوسيلة للضغط والتأثير في السياسات الداخلية والخارجية على حدّ سواء. ومنذ بداية ولايته الثانية، شهدت الولايات المتحدة تغييرات جوهرية في آليات توزيع الميزانيات الفيدرالية، ما كشف عن استراتيجية ممنهجة لإعادة ضبط ميزان القوى داخل الدولة الأمريكية.
آليات التحكم في المؤسسات الفيدرالية
اعتمدت إدارة ترامب على الأوامر التنفيذية لحجب التمويل الفيدرالي عن المؤسسات التي لا تلتزم بسياسات الإدارة أو تعارض توجهاتها، وقد أدى ذلك إلى تجميد التوظيف وإجراء تخفيضات حادة في عدد العاملين داخل عدد من الوكالات الفيدرالية. وعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الطاقة (DOE) عن تقليص الدعم المالي بنسبة 15%، ما أُعتبر إشارة صريحة على أن التمويل بات يُستخدم كسلاح لعقاب من يُنظر إليهم كمؤسسات “غير متعاونة”. وفي المقابل، أُعيد تفعيل “مبادرة البيت الأبيض للجامعات والكليات السوداء التاريخية (HBCUs)”، والتي رآها البعض بمثابة مكافأة للمؤسسات المتوافقة مع أجندة الإدارة، أو كخطوة سياسية ذكية لكسب قاعدة دعم جديدة. هذا النهج أشار إلى أن البيت الأبيض بات يستخدم السيطرة على الميزانية ليس فقط كأداة للتنفيذ، بل كوسيلة للإكراه المالي والتحفيز الانتقائي. شهدت مؤسسات كبرى مثل وزارة التعليم محاولات واضحة لإعادة الهيكلة ونقل صلاحياتها إلى الولايات أو إلى كيانات فيدرالية بديلة. ووفق ما ورد في East West Journal of Humanities and Social Sciences، فقد طالت إعادة الهيكلة وزارة الصحة والخدمات الإنسانية (HHS)، التي دخلت بدورها في إطار خطة “كفاءة الحكومة”. كما خضعت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لمراجعة شاملة ربما تقود إلى حلّها، ما أثّر بدوره على آليات توزيع المساعدات الخارجية، حيث ركزت الإدارة على توحيد السيطرة على الموارد وتوجيهها بما يتفق مع الرؤية السياسية الجديدة.
تعيينات استراتيجية لضمان الولاء المالي والإداري
تجاوزت محاولات السيطرة نطاق التمويل لتصل إلى التعيينات. إذ حرص ترامب على إحكام قبضته من خلال تعيين شخصيات موالية في مناصب مالية ورقابية مفصلية، مثل سكوت بيسنت في وزارة الخزانة، وراسل فوجت على رأس مكتب الإدارة والميزانية. تلك التعيينات كانت جوهرية في تنفيذ أجندة ترامب المالية، وسط تقارير عن وجود تضارب مصالح بين بعض هؤلاء المسؤولين وكبريات الشركات، ما يثير تساؤلات عن مدى استقلالية القرار المالي والإداري في ظل هذه التركيبة.وقد مكّنت هذه التعيينات الإدارة من بسط نفوذها على الوكالات التنظيمية المستقلة، وبالتالي التأثير المباشر في السياسات، ووضع أولويات الميزانية، وآليات الإنفاذ. هذه المركزية المتصاعدة أثارت مخاوف حقيقية بشأن مدى نزاهة واستقلالية مؤسسات الدولة.
الضغط على المؤسسات التعليمية والبحثية
شملت استراتيجية الضغط كذلك مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي. إذ اقترحت الإدارة تخفيضات واسعة في برامج العلوم الفيدرالية، ما أثّر على جامعات كبرى مثل جامعة كاليفورنيا، وبرينستون، وديوك، وستنافورد، ومؤخرًا جامعة هارفارد. الأخيرة شهدت تجميدًا فوريًا لتمويل بلغ 2.2 مليار دولار من المنح و60 مليون دولار من العقود، بسبب رفضها تعديل سياساتها بشأن الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، ولتخوفات تتعلق بمواقفها من معاداة السامية وتعددية الآراء.كما تم تقليص ميزانية وزارة التعليم بنسبة وصلت إلى 50%، وتسريح آلاف الموظفين، ضمن خطة “كفاءة الحكومة” التي قادها إيلون ماسك، بحسب ما أوردته إذاعة NPR. ومن جانب آخر، سعت الإدارة إلى فرض قيود على تعويض التكاليف غير المباشرة في منح الأبحاث، ما قوبل باعتراض واسع من قبل الجامعات الكبرى. هذه الإجراءات دلّت بوضوح على محاولة الإدارة فرض أجندتها الأيديولوجية على قطاع البحث العلمي، من خلال توجيه التمويل بما يتماشى مع أولوياتها، وحرمان المجالات التي تُعتبر “غير مواتية” من الدعم، مما يهدد بحرمان المجتمع الأكاديمي من استقلاليته الفكرية.
السياسة الخارجية والمساعدات التعليمية والتنموية
امتد التأثير المالي لإدارة ترامب إلى السياسات الخارجية، خصوصًا في ما يتعلق بالمساعدات التعليمية والتنموية. إذ قامت الإدارة بتجميد ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، مما انعكس مباشرة على برامج تعليمية في الخارج، أبرزها في مصر. حيث تضرر أكثر من 1000 طالب مصري في 13 جامعة بسبب تجميد الأنشطة، بينهم نحو 200 طالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. جاء ذلك ضمن سياسة عامة لتقليص المساعدات الخارجية، حيث أمر وزير الخارجية ماركو روبيو بتعليق كل أشكال التمويل لحين مراجعة شاملة قد تستغرق 90 يومًا.في الوقت نفسه، جرى تحويل جزء من المساعدات التعليمية المخصصة لمصر إلى مشاريع داخل غزة، من بينها إعادة تأهيل المدارس المتضررة، لكن بشرط التعاون الكامل مع الآلية الأمريكية-الإسرائيلية الجديدة لتوزيع الدعم. وقد هدّد ترامب علنًا بوقف المساعدات الأمريكية لمصر إذا رفضت استقبال لاجئين فلسطينيين، في تصريحات مثيرة للجدل في فبراير 2025، قوبلت بالرفض الحاسم من الجانب المصري، ما أدى إلى تعليق تمويل بقيمة 100 مليون دولار كانت مخصصة للجامعات الحكومية.إضافة إلى ذلك، خُصص مبلغ 50 مليون دولار لدعم برامج التعليم الفني في مصر، ولكن بشرط الشراكة مع مؤسسات إسرائيلية. كما جُمِّد تمويل بقيمة 2 مليون دولار للجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد رفضها إدراج مناهج تدعو إلى “التعايش مع إسرائيل”، وتوقّف مشروع “التعليم للجميع” في صعيد مصر، الذي كانت قيمته 30 مليون دولار، نتيجة رفض الحكومة المصرية التوقيع على خطة أمريكية لتوزيع المساعدات في غزة خارج إطار الأمم المتحدة.
ما بين الضغط والتحفيز: إلى أين تمضي الإدارة؟
تكشف هذه الإجراءات التعسفية المتتالية عن سعي إدارة ترامب إلى فرض الولاء بالقوة، حتى على المؤسسات التعليمية التي لا تخضع لسيطرتها المباشرة. لكن يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستنجح هذه الاستراتيجية في إحكام السيطرة، أم أن ضغوط الكونغرس، وسخريته المتكررة من توجهات الإدارة، ستُفضي إلى تراجعها، واعتبار ما يحدث مجرد موجة مؤقتة لا تصمد طويلًا أمام التوازنات الديمقراطية في النظام الأمريكي؟