تيليجرام.. المنصة المُفضلة للتطرف الرقمي ما القصة؟

تيليجرام.. المنصة المُفضلة للتطرف الرقمي ما القصة؟

في عصرٍ تهيمن فيه التكنولوجيا على مساحات الوعي والواقع، لم تعد الجماعات المتطرفة بحاجة إلى الكهوف أو الحدود لتمرير رسائلها أو حشد أتباعها؛ بل وجدت في منصات التواصل الاجتماعي، خاصة تلك ذات الرقابة المتساهلة، ملاذًا رقميًا آمنًا لبثّ أيديولوجياتها الهدامة. فمنذ عقود، تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات جسيمة بسبب هذه الجماعات، التي لم تكتفِ بتخريب المؤسسات والبُنى التحتية، بل امتدت إلى تخريب العقول. وفي العقد الأخير، ومع تطور وسائل الاتصال وازدياد الخصوصية الرقمية، انتقلت المواجهة إلى ميدان جديد: الفضاء الإلكتروني.

 

التطرف الإستراتيجي في العالم الرقمي

أدركت التنظيمات المتطرفة أهمية توظيف منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق أهدافها، من تجنيد وتعبئة، إلى جمع التبرعات والتخطيط للهجمات، فاختارت منصات ذات رقابة محدودة مثل “تيليجرام” لتنفيذ خططها بعيدًا عن أعين الرقابة الصارمة التي فرضتها منصات كبرى كفيسبوك وتويتر، باتت هذه المنصات أدوات استراتيجية تُستخدم لبثّ دعاوى “نحن ضدهم”، والتحريض على العنف، وزعزعة الثقة بالمؤسسات، وتآكل القيم، واستهداف صناع القرار.الجماعات الإرهابية المعاصرة – وعلى رأسها “داعش”، “القاعدة”، و”جبهة النصرة” – استفادت من الخصائص التقنية التي توفرها بعض التطبيقات، مثل التشفير الكامل، والبث الواسع، وسهولة إنشاء القنوات، لتوسيع دائرة تأثيرها بشكل غير مسبوق. لم تعد بحاجة إلى الإعلام التقليدي أو المرور عبر حراس البوابة، بل بات بإمكانها الوصول إلى الأفراد مباشرة، لا سيما أولئك المعرضين للاستقطاب.

تيليجرام.. المنصة المُفضلة للتطرف الرقمي

برز تطبيق “تيليجرام” كمنصة مركزية لهذه الجماعات، خاصة في العالم العربي، نظرًا لتوفيره بيئة رقمية آمنة تتسم بالسرية والخصوصية وغياب الرقابة الحثيثة. وقد وثّق مشروع مكافحة التطرف (Counter Extremism Project) في تقرير صدر في فبراير 2024، بعنوان Terrorists on Telegram، مدى اعتماد جماعات مثل “داعش” و”القاعدة” على هذه المنصة في نشر الدعاية، وتجنيد الأفراد، والتنسيق للعمليات الإرهابية، مستغلين أدوات مثل القنوات العامة والدردشات السرية والروبوتات الآلية لنشر محتوى دعائي ضخم يوميًا.وتتنوع استخدامات هذه القنوات بين إعلان المسؤولية عن هجمات – مثل تفجيرات باريس 2015 وهجوم لندن 2017 – وجمع التبرعات – كما فعلت “جبهة النصرة” – إلى جانب التحريض المباشر على العنف ونشر أدلة تصنيع الأسلحة من قبل جماعات اليمين المتطرف. ورغم تعاون “تيليجرام” جزئيًا مع جهات دولية كـ”يوروبول”، فإن التساهل ما زال قائمًا تجاه تنظيمات مثل “حماس” و”حزب الله”، ما يضع علامات استفهام حول معايير الحذف والمساءلة.

تحالفات دولية لوقف زحف الفكر المتطرف

لم تقف الحكومات والمؤسسات الدولية مكتوفة الأيدي، بل تبنّت استراتيجية متعددة الأطراف للتصدي لهذا التهديد العابر للحدود. فقد أطلقت الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والشرطة الدولية “الإنتربول”، بالتعاون مع شركات التكنولوجيا والمجتمع المدني، مبادرات تهدف إلى إزالة المحتوى المتطرف، وتطوير روايات مضادة، وتعزيز التوعية الرقمية. ويشكّل “المنتدى العالمي للإنترنت لمكافحة الإرهاب” منصة أساسية لتنسيق الجهود وتبادل البيانات بين مختلف الأطراف.

“اعتدال”.. منصة عربية رائدة لمكافحة الفكر المتطرف

في السياق الإقليمي، تبرز المملكة العربية السعودية بمبادرتها الطموحة “مركز اعتدال”، الذي أُطلق عام 2017 كأول كيان عربي متخصص في رصد وتحليل الخطاب المتطرف رقميًا، وصياغة خطاب إعلامي يعزز ثقافة الاعتدال. ويعتمد المركز على تقنيات تحليل متطورة قادرة على كشف المحتوى المتطرف في غضون 6 ثوانٍ من نشره، ويعمل على تفكيك روايات الإرهاب وكشف طرق تجنيد الشباب.أعلن المركز، في مايو 2025، عن رصده لأكثر من 16 مليون مادة متطرفة على “تيليجرام” خلال الربع الأول من العام فقط، وإغلاقه 1408 قناة نشطة استخدمتها جماعات متطرفة. كما أبرم المركز شراكات إقليمية ودولية، أبرزها مع مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، بهدف تبادل الخبرات وتوحيد الجهود لمواجهة التطرف.

التطرف الرقمي مسؤولية الجميع

ختامًا، يتضح أن مواجهة الفكر المتطرف عبر الإنترنت لم تعد مهمة أمنية فقط، بل تتطلب تعاونًا واسعًا يشمل الحكومات، والمؤسسات الأكاديمية، والإعلام، وحتى شركات التكنولوجيا نفسها، التي يمكنها أن تتحول من منصات مفتوحة إلى دروع رقمية تحمي المجتمعات من الانجراف نحو دوائر الظلام. فلا سبيل لحماية العقول إلا بالتحرك الجماعي، والحفاظ على بيئة رقمية لا تحتمل التطرف.