العلاقات العاطفية مع الروبوتات الرقمية وتأثيرها على صحة الإنسان: ما هي القصة؟

في مشهد لا يبتعد كثيرًا عن الخيال العلمي، يجلس شاب عشريني في غرفته ليلًا، يتبادل رسائل صوتية ونصية طويلة مع “شخصية” رقمية ليست بشرًا. يضحك، يبوح، ويتعلّق، لكن الطرف الآخر ليس أكثر من واجهة لروبوت محادثة مبني على الذكاء الاصطناعي. هذه الظاهرة، التي كانت يومًا مادة لأفلام الخيال العلمي مثل Her (2013) ومسلسلات مثل Upload (2020)، باتت اليوم واقعًا يوميًا لبعض الشباب، وربما ملامح مستقبل قريب للجميع.
ويقول الناقد طارق الشناوي في تصريح لـ”الجمهور”: “الخيال العلمي كان موجودًا منذ بدايات السينما، وكثير من الأعمال تناولت وجود مراكب فضائية وصعود الإنسان إلى القمر. دائمًا ما يكون الخيال سابقًا للواقع”، مؤكدًا أننا نحيا في إيقاع أسرع بكثير من الماضي.
جيل يُعيد تعريف الحب؟
تدور أحداث فيلم Her في مستقبل قريب، حيث يعيش البطل “ثيودور” وحيدًا ويعمل في كتابة رسائل رومانسية للناس نيابة عنهم. بعد انفصاله عن زوجته، الذي خلّف فراغًا عاطفيًا ووحدة لم يستطع التعامل معهما، يلجأ إلى شراء نظام تشغيل جديد مدعوم بالذكاء الاصطناعي، مُصمَّم ليتطور ويتعلم ويقدم رفقة إنسانية. يختار صوتًا أنثويًا للنظام، الذي يسمّي نفسه “سامانثا”. مع مرور الوقت، تنشأ علاقة قوية بين ثيودور وسامانثا، حيث يجد فيها شخصًا يفهمه ويشاركه مشاعره، بل ويقع في حبها.
كان ذلك يُنظر إليه كمبالغة فنية ، لكن اليوم، أصبحت روبوتات مثل ChatGPT، وReplika، وWoebot تقدم خدمات تتعدى الإجابة على الأسئلة إلى تقديم الدعم العاطفي، وأحيانًا الحب الافتراضي.
جدير بالذكر أن هناك العديد من المواقع تتيح للمستخدمين تصميم روبوتات الدردشة الخاصة بهم، فيمنحونها الصفات التي يريدونها، ويحددون بلدها وطريقة تفكيرها ومهنتها وهواياتها، ويطلقون عليها أسماء كما لو كانت أشخاصًا حقيقيين. وتستجيب هذه الروبوتات وفقًا للصورة التي يرسمها المستخدم.
ومن أمثلة هذه المواقع: Replika، وPoe من تصميم Quora، ومنصات جوجل مثل Botpress وRasa وDialogflow، بالإضافة إلى GPTs من OpenAI ضمن خدمة ChatGPT Plus.
ووفقًا لتقرير صدر عن شيري توركل، عالمة الاجتماع وعلم النفس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، فإن هذه العلاقات تُعد وهمية وتهدد الصحة العاطفية للناس.
وتؤكد توركل أن روبوتات الدردشة والرفاق الافتراضيين، رغم ما يوفرونه من راحة ورفقة، يفتقرون إلى التعاطف الحقيقي ولا يستطيعون الاستجابة للمشاعر الإنسانية.
ويركز بحثها الأخير على ما تسميه “العلاقة الحميمة المصطنعة”، وهي الروابط التي يشكّلها البشر مع روبوتات الدردشة.
وتقول الناقدة حنان شومان إن التكنولوجيا جعلتنا متوحدين، ورغم التواصل المستمر عبر الهواتف، إلا أن هذا التواصل سطحي، لا يعوّض الوحدة الفعلية التي نعيشها، وأكدت أن التفاعل مع العالم الافتراضي بات يغلب على التفاعل الواقعي.
وأكد الناقد كمال القاضي على أن الخيال العلمي تجاوز دوره بالفعل منذ أن تم اكتشافه كوسيلة للترفيه، فأصبح الآن واقعًا حقيقيًا له وظائف تبعث على القلق، كونه يركّز بشكل أساسي على إحداث تحولات في ثقافة وتكوين الإنسان، وبالقطع تتأثر المجتمعات العربية تأثرًا سلبيًا بالطفرات التكنولوجية التي تستهدف العقل والهوية. فجميع أنواع الارتباط الذهني والعاطفي بين الشباب والروبوتات، هي عمليات تخريب وإفشال مدروسة بعناية من جهات خارجية، تنفّذ مخططات تآمرية بمنتهى الدقة وتتبنى مشروعات لا إنسانية لتحويل العنصر البشري إلى آلة تستجيب إلى الأوامر في انقياد تام وفقدان كامل للإرادة، ومن ثم تتم السيطرة ويصبح المواطن مجرد أداة تنفيذية تُدار عن بعد.
هل وعينا في خطر؟

إذا كان فيلم Her يحذر من حب بلا جسد، فإن مسلسل Upload في جزئه الأول يأخذ الأمر إلى مستوى أبعد: ماذا لو أمكن تحميل الوعي البشري إلى عالم رقمي بالكامل؟.
يعرض المسلسل نوعًا من التطور غير المسبوق. ففي الحلقة الأولى، يتعرض بطل المسلسل “ناثان” لحادث سيارة ينقله إلى المستشفى، وهناك يُعرض عليه خياران: إما أن يخضع لعملية جراحية محفوفة بالمخاطر لا يُعرف إن كان سيستيقظ بعدها أم لا، أو أن يدخل غرفة الـUpload، وهو الخيار الذي يختاره متأثرًا بالعاطفة، ليترك خلفه نسخة افتراضية منه خالدة تعيش في بيئة افتراضية يمكنها التفاعل مع عائلته والأحياء عبر الشاشات وزيارات للعالم الرقمي. فيُقدم ناثان على عملية انتحارية تدمر عقله تمامًا وتنهي حياته الواقعية.
لكن القصة لا تنتهي هنا. إذ تنشأ لاحقًا علاقة حب بين نسخة ناثان الرقمية و”نورا”، وهي موظفة دعم فني في العالم الافتراضي الذي يحيا فيه. في هذا السياق، نجد أن البشر يعملون لإسعاد وخدمة نسخ افتراضية من أشخاص ماتوا فعليًا، بل ويقعون في حبها.ورغم اعتقاد البعض أن التفاعل مع نسخ رقمية مثل ناثان أمر غير ملموس، يُظهر المسلسل إمكانية الإحساس بكل شيء داخل هذه العوالم الافتراضية، من خلال نظارات الواقع الافتراضي (VR) وبدلات الواقع الافتراضي (VR Suits) التي تنقل الأحاسيس الجسدية مثل اللمس والحرارة والضغط، مما يتيح للمستخدمين الشعور بتفاعلات واقعية داخل البيئة الرقمية.
وما يبدو خيالًا لم يعد كذلك؛ إذ توجد اليوم بدلات تقدم تغذية راجعة لمسية (Haptic Feedback)، مثل Teslasuit وHaptX، وتُستخدم بالفعل في مجالات التدريب والألعاب.ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتطرق إلى استنزاف مادي حقيقي للأسر من أجل الحفاظ على النسخ الافتراضية لأحبائهم، وصولًا إلى صراعات بين شركات الواقع الافتراضي حول جودة العوالم التي يقدمونها لتلك النسخ، ورأي هذه النسخ في الخدمة التي يتلقونها.
كل هذا يدفعنا للتساؤل: هل نحن في خطر عند التعامل مع روبوتات المحادثة، في ظل جمعها اللامحدود للمعلومات عنّا وعن طبيعتنا البشرية؟ وهل هذه الأعمال تُنبئ بمستقبل حقيقي، أم أنها مجرد خيال يوشك على أن يتحقق؟
هل هناك دوافع خفية من وراء هذه الأعمال لتهيئة الأذهان لخطة مدروسة؟ خطة تدفع البعض للانتحار مقابل “الخلود الرقمي”، وتخدم نظريات المؤامرة حول تقليص عدد سكان الأرض ودعم ما يُعرف بـ”نظرية المليار الذهبي”؟وعقّب على ذلك الناقد كمال القاضي قائلاً : “فكرة الفناء هي جوهر القضية في صراع التكنولوجيا مع الإنسان، فالانتحار أحد طرق الخلاص، تلك هي السياسة التي تنتهجها القوة الخفية الداعمة لهذا الاتجاه، فالحياة معنى كلاسيكي يجب القضاء عليه، لكن الموت هو غاية الغايات لأنه البديل المرجو والحل المزعوم للتخلص من الكم العددي المتفاقم والمتنامي للبشر!”فيقول القاضي إن رفع الوعي عن طريق نموذج Upload مجرد خدعة للابتزاز والمتاجرة بالشعارات الإنسانية الجذابة، وهذا الأسلوب هو الأشد خطورة لأنه يعتمد على المراوغة ويتيح الفرصة لزرع بذور التشكيك في المُسلَّمات الكونية، لضرب القيمة الإيمانية في القتل كي تسهل عملية السيطرة والتحكم الكامل في الإرادة الإنسانية وتوجيهها على النحو المخطط له.وترى شومان أن مسلسل Upload يعيد طرح الخطيئة الأولى في صيغة جديدة؛ فكما وسوس إبليس لآدم أن الأكل من الشجرة يمنح الخلود، يقدّم المسلسل فكرة الخلود ولكن عبر الانتحار، لا عبر الثمرة المحرمة. وفكرة الخلود ليست حديثة، بل هي مرتبطة ببداية الخليقة، ولكن الطرح الجديد لها يخفي خطورة فلسفية وروحية كبيرة. وتؤكد أن أعمال الخيال العلمي الحديثة لا تخلو من أجندة واضحة تهدف إلى فصل الإنسان عن الإيمان والروحانيات، وهذا جزء من توجهات الجهات المسيطرة على الإنتاج الفني العالمي، وعلى رأسها هوليوود. الكثير من هذه الأعمال تُروّج لفكر صهيوني يعمد إلى نشر المادية والتشكيك في القيم الدينية، وهو ما نجد له جذورًا في بروتوكولات حكماء صهيون.ويؤكد كمال القاضي أن إنكار وجود الله هو الهدف الأول والأساسي لأعمال الخيال العلمي القائمة على فكرة الإلحاد، لأن الإيمان بالله يُفشل أي مشروع من هذا النوع ويُبدّد كافة المجهودات الرامية إليه، فهذه السياسة بالطبع يستلزم تطبيقها وجود أجندات منظمة ومرتبة وممولة على أعلى مستوى. ونظارات الواقع الافتراضي وعملية نقل الإحساس، كلها أدوات ووسائل ونُظم يُسعى من خلالها لتجهيز المستخدم للدخول في الدائرة التأثيرية المعنية بتغيير النمط السلوكي والتفكيري لإنجاح عملية الغزو التكنولوجي العدائي.وعلى الجانب الآخر، يقول طارق الشناوي: لست من أنصار نظرية المؤامرة، كما أنني لا أحب تقييم الأعمال الفنية من منظور ديني أو أخلاقي فقط. وقد شاهدت فيلم Mickey 7 الذي يتناول قضية الاستنساخ، وهي فكرة ليست جديدة تمامًا؛ فالتشكيك والطرح المختلف موجودان منذ سنوات، مثل كتاب “لماذا أنا ملحد؟”
“أفاتار”: نقل الوعي بين الأجساد

وإذا كان أزعجك الحديث عن Upload، الذي اكتفى برفع الوعي في منصات افتراضية، فإن سلسلة Avatar تذهب إلى أبعد من ذلك: حيث يتجسد الإنسان في كائنات أخرى عبر نقل الوعي. فهل يظل الإنسان نفسه إذا تغيّر جسده؟ وهل يمكن رفع وعي أشخاص رحلوا إلى أجساد أخرى يمكنها التفاعل معنا؟.
اللافت أن مسلسل Upload تناول هذه القضية في جزئه الأول، وأظهر فشل هذا النوع من العمليات، لكنه عاد في جزئه الثالث ليُظهر نجاحها.
فهل هذه القصص مجرد خيال، أم أنها تعبير فني عن واقع قادم يُصبح فيه الوعي قابلًا للتنزيل، ويُختزل فيه الجسد إلى وعاء يمكن التخلي عنه؟.
ويقول الناقد كمال القاضي: “فيلم آفاتار وغيره من المصنفات الفنية الداعمة لهذا التوجه، كلها أدوات تأثير وتحكم الهدف منها تحقيق المعادلة الفنية التكنولوجية الخبيثة، ولو تم التجاوب مع مثل هذه الأنماط ستتعاظم معدلات الخوف من المستقبل التقني، لأنه سيُشكّل في حينه خطورة حقيقية لن تُحمد عقباها.”بين الخيال والواقع.. تهيئة أم تحذير؟
اللافت أن هذه الأعمال – رغم تنوعها – تطرح جميعها نفس السؤال الجوهري: ما الذي يُعرّف الإنسان؟ هل هو الجسد؟ الوعي؟ أم قدرته على الحب؟ نحن لا نعيش فقط ثورة تقنية، بل مرحلة مفصلية في تاريخ الإنسانية.
وتقول شومان: “رفض تقبّل تقنيات الخيال العلمي لم يعد خيارًا، فالعالم يفرضها على الجميع، وقد كنتُ آخر صحفية تقريبًا في مصر تقتني هاتفًا، لأنني لم أتقبل في البداية فكرة أن يكون أي شخص قادرًا على التواصل معي في أي وقت أو معرفة موقعي. رغم مقاومتي، اضطررت لاقتناء الهاتف، لأن البُعد عن هذه التقنيات يعني العزلة التامة، خاصة في ظل عالم بات يعتمد كليًا على التكنولوجيا في التواصل والعمل والمعرفة.”
أعمال مثل Her وUpload وAvatar لم تعد مجرد فنون تخيّلية، بل خرائط ذهنية تمهّد لعصر يُعاد فيه تعريف الذات والهوية والحب.
قد تكون روبوتات المحادثة أداة، لكنها مرآة أيضًا. مرآة تعكس حجم الفراغ الإنساني، والحاجة المتصاعدة للقبول والانتماء.