بالرغم من تحديات العصر الحديث السريعة… هل ستستعيد الدراما الإذاعية بريقها القديم؟ (خاص)

لو عاد الزمن إلى الوراء، لا إلى لحظة أو عقد بعينه، بل إلى بدايات القرن العشرين، حين كانت الآذان تصغي باهتمام بالغ إلى ما يصدر من ذبذبات الأثير، لاكتشفنا أن الدراما الإذاعية كانت الفنّ الجماهيري الأول بامتياز، وسيدة الحضور في المشهد الثقافي العالمي. ومع صعود التلفزيون تدريجًا، تراجعت إلى الظلّ، كما تتوارى الشمس خلف الغيم، لكنها لم تغب، بقيت تقاوم، تكتسب وجوهًا جديدة، وتبحث عن موطئ قدم في عصر يعبد الصورة ويؤلّه السرعة.في زمن تُحتل فيه العين بكل ما هو مرئي، تبقى حاسّة السمع الملاذ الوحيد في زحام المواصلات، وخلف مقود السيارة، وفي ساعات العمل المكتبي، من هنا يصبح الصوت أكثر حضورًا، وأكثر قدرة على ملء الفراغ، سواء جاء على هيئة موجزٍ إخباريّ أو حكاية تمثيلية تحاكي الواقع أو تتخيله.فهل يمكن لهذا الفن العريق، الذي تربّى على وقع صوته أجيال، أن يستعيد مكانته في عصر الرقمنة؟ وهل ما زال في الصوت سحرٌ يكفي ليوقظ الخيال من سباته، ويعيد إلى الدراما الإذاعية وهجها القديم؟يرى الناقد كمال القاضي في تصريحات خاصة لـ«الجمهور»، أن الإذاعة عموماً تأثرت تأثرًا سلبيًا جراء المنافسه القوية للوسائط التكنولوجية الحديثة، فقد حدث خصم نسبه كبيرة من مستمعيها وجمهورها، ومن ثم طال هذا الخصم الدراما الإذاعية بالقطع فلم يعد هناك إنتاج درامي إذاعي بنفس الكثافة التي كانت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن ويتصور أن أزمة الإذاعة بسحب البساط من تحتها ظهرت بقوة منذ بداية الألفية الثانية.
تاريخ الدراما الإذاعية
ويروي القاضي، أن انطلاق الدراما الإذاعية في مصر جاء مع تأسيس الإذاعة الرسمية عام 1934 بكلمة «هنا القاهرة» للمذيع أحمد سالم، لكن بداياتها الفعلية سبقتها في العشرينات عبر إذاعات أهلية، وكانت العروض المسرحية تُقدم على الهواء مباشرة، ما كشف عن حاجة ملحّة لأسلوب جديد يتلاءم مع خصوصية الميكروفون لا خشبة المسرح.قاد محمد عزيز رفعت أول تحوّل حقيقي، بتأسيس فرقة «هواة التمثيل بالإذاعة»، معتمدًا على مذيعين ومترجمين لتحويل المسرحيات العالمية إلى أعمال مسموعة، مدعومة بالسرد والتعليق الصوتي، لاحقًا، تحولت هذه التجارب إلى أعمال مؤلّفة خصيصاً للإذاعة، مع اعتماد أكبر على المؤثرات الصوتية والأسلوب السينمائي.برزت أسماء مثل يوسف جوهر، السيّد بدير، وأنور وجدي كمؤلفين ومخرجين وممثلين، وأسهموا في تثبيت الدراما الإذاعية كفن مستقل، يعبر عن الواقع المصري ويصل إلى كل بيت، كانت تبث على الهواء، ما جعل تنفيذها دقيقاً وعرضة للخطأ، وهو ما زاد من قيمتها رغم ضياع كثير من أعمالها بسبب غياب التسجيل. اختتم السيد بدير هذا العصر الذهبي بعد أن ترك تراثاً ضخماً، من أبرز أعماله: «الأبالسة»، «زواج بالإكراه»، و«القيثارة الحزينة» بمشاركة نزار قباني.ويقول كمال القاضي، أن العمل الإذاعي الأكثر تأثيرًا من وجهة نظري هو ألف ليلة وليلة فهو عمل تراثي نادر الوجود ومن الصعب تكراره، وقد كان له تأثير كبير على جمهور المستمعين في مصر والعالم العربي .
كيف استعادت المسلسلات الإذاعية بريقها من جديد؟
بالرغم من التحديات، استعادت المسلسلات الإذاعية زخمها خلال المواسم الرمضانية الأخيرة، مستندة إلى أصوات نجوم كبار، وقصص مميزة تدمج بين الواقع والخيال، وتخاطب عقل المستمع وخياله في آنٍ معًا، نجوم الصف الأول مثل أحمد حلمي، منى شلبي، هنا الزاهد، سوسن بدر، اختاروا الميكروفون ليحكوا قصصًا جديدة، مختلفة، تخاطب جيل الشباب، وتعيد الاعتبار لفن الحكي بالصوت وحده.وتدور في عالم منصات التواصل والتريندات المفبركة، حيث يلعب “سيف” (أحمد حلمي)، شخصية مهووسة بالمحتوى الرقمي، لكنه يجد نفسه متورطًا في قضية كبرى بسبب فيديو مفبرك. تبدأ رحلة البحث عن الحقيقة وسط عالم مزيف. ورسالته كانت انتقاد لعالم السوشيال ميديا الزائف، وإثارة تساؤلات حول من يملك الحق في الرواية. وهو مسلسل اذاعته نجوم Fm في رمضان 24 وهو من بطولة أحمد حلمي وهنا الزاهد وشارك فيه عدد من الفنانين المحبوبين كسوسن بدر، سامي مغاوري وطه دسوقي.
«أبويا شقيقي» في قالب كوميدي ساخر
«أبويا شقيقي» مسلسل من بطولة الفنان محمد هنيدي و شيري عادل، ذاعه راديو النيل في رمضان 2024. في قالب كوميدي ساخر، يلعب هنيدي دور شاب يتفاجأ بأن والده ليس والده البيولوجي، بل شقيقه! تدور الحلقات بين المواقف العبثية والبحث عن جذور العائلة، وسط أجواء مصرية خفيفة الدم.وفي إذاعة راديو 9090، أطلّت النجمة هنا الزاهد إلى جانب نور النبوي في مسلسل “جوازة مشروعة”، وهو عمل كوميدي رومانسي يتناول قصة (ليلى) و(عاصم)، وهما جاران يكرهان بعضهما بشدة بسبب خلافاتهما المستمرة، لكن يتغير كل شيء عندما تحصل (ليلى) على جائزة قدرها 10 ملايين جنيه، لكن شرط استلامها الوحيد هو وجود خطيب أو زوج لها، حينها يتفقان على الزواج من أجل الحصول على الجائزة، وتتوالى الأحداث.
مسلسل مطلوب عريس
جاء مسلسل “مطلوب عريس” من بطولة هنا الزاهد وأحمد حلمي، الذي عُرض في رمضان 2023 عبر إذاعات “راديو النيل”، بمشاركة الفنان سامي مغاوري. تدور أحداث المسلسل حول “شهد”، الفتاة التي تفقد والدها وتجد نفسها تحت وصاية إخوتها الذين يستغلون وضعها للإقامة معها في منزلها. للتخلص من هذا الضغط، تقرر البحث عن عريس والزواج صوريًا لخداع إخوتها، فتلتقي بـ”يوسف”، الذي يرفض الفكرة في البداية، لكن الظروف تجبرهما على الموافقة. المسلسل يقدم مزيجًا من الكوميديا والدراما، مسلطًا الضوء على قضايا اجتماعية مثل الضغوط الأسرية والزواج التقليدييقول كمال القاضي: «صمود الإذاعة إلى الآن أمام موجات الحداثه المتسارعه يمثل قوة في حد ذاته، والأهم هو أن يتم تطوير الأداء بشكل عام وإكساب العاملين خبرات جديدة تتناسب مع حجم التحديات».الحضور الإذاعي لايزال قائماً بشكل نسبي برغم الظروف الصعبه وقلة الإمكانيات والموارد المادية ، لأن المحتوى البرامجي على قدر من التميز والنضج وهذا ماتحتمي فيه الإذاعة بشكل حقيقي، أبرز التحديات هي المُعضلات المادية والاقتصادية التي تحول دون إحداث التطوير التقني المطلوب ، فضلاً عن نُدرة الحافز المادي للإذاعيين.

هل يتابع الجيل الجديد المسلسلات الاذاعية ؟
قالت ناتالي وجدي، في تصريح لـ«الجمهور»، إحدى المستمعات الشابات، إن المسلسلات الإذاعية تقدم تجربة مختلفة كليًا عن الدراما التليفزيونية، إذ تعتمد بشكل أساسي على الخيال. وأوضحت: «أنا من محبي المسلسلات الإذاعية، فهي تمنحني فرصة للهروب إلى عالم من التخيل عبر الأداء الصوتي والمؤثرات السمعية المتميزة، دون الحاجة إلى الجلوس أمام الشاشة أو التركيز في التفاصيل البصرية، يمكنني الاستماع إليها أثناء القيام بأي عمل، وهو ما يجعلها مناسبة للحياة اليومية السريعة. كما أن الأداء الإذاعي يتطلب موهبة خاصة، فالممثل يجب أن يوصل المشاعر ويُجسِّد الشخصيات من خلال صوته فقط، دون أي وسيلة بصرية مساعدة».أما كارين هاني، فقالت للجمهور إن ارتباطها بالمسلسلات الإذاعية يعود إلى سنوات طويلة، حيث اعتادت الاستماع إليها أثناء أداء الأعمال المنزلية، وأكدت أنها كانت تحلم بالعمل في الإذاعة منذ صغرها. وأضافت: «المسلسلات الإذاعية تمتاز بخفة الظل وسهولة المتابعة. على عكس الدراما التليفزيونية، التي تحتاج إلى متابعة دقيقة للكادرات والممثلين وتفاصيل المشهد، الإذاعة تترك لي مساحة لتخيل الشخصيات والمواقف حسب رؤيتي الخاصة، وده جزء كبير من متعتها».وتابعت كارين: «يؤسفني أن بعض الناس تنظر إلى المسلسلات الإذاعية كخيار أقل قيمة للممثلين، وكأن من يلجأ لها لم ينجح في الدراما التليفزيونية. هذه نظرة غير منصفة، لأن العمل الإذاعي له خصوصيته وصعوبته».وأكدت أن الشباب اليوم يميلون أكثر إلى البودكاستات ذات الطابع العملي أو التثقيفي، بينما الأعمال الترفيهية الصوتية ليست منتشرة بينهم بشكل واسع، وختمت حديثها قائلة: «من أقرب المسلسلات الإذاعية إلى قلبي مسلسل (سعيدة مش سعيدة) للراحلة رجاء الجداوي ومنه شلبي».يقول كمال: «لا أعتقد أن هناك اهتمام من الجيل الجديد بالإذاعه لإنشغاله بالوسائط الأخر، لكن ببعض المجهود في تجديد الأفكار المطروحه يمكن استقطاب نسبه من المُستمعين الجُدد، مما لاشك فيه أن الإعلام الرقمي أثر سلباً في الإذاعه والتليفزيون معاً بحكم التطور الطبيعي لآليان التثقيف والمعرفه وتمسك الإذاعة والتليفزيون بالأداء الكلاسيكي، خاصة الإذاعة لن تعود الإذاعة لرونقها إلا بثورة شامله تصلح ماأفسده الدهر ، فلابد من التحديث التكنولوجي وتطوير اللغة والخطاب مع التمسك بمبدأ الرصانة».