رحلة النادي الأهلي إلى فلسطين: مزيج من الحقائق التاريخية والأساطير الشعبية

كثيرة هي الحكايات التي نُسجت حول رحلة النادي الأهلي إلى فلسطين لدعم الثورة الفلسطينية، وتناقلتها الألسنة في سياق يمزج بين الفخر الوطني والبطولة الرياضية، بعض تلك القصص خطّها كبار النقاد الرياضيين والصحافيين في كتبهم ومقالاتهم، واستندت إلى وقائع موثّقة، لكن كثيرًا منها اندرج تحت خانة الأسطورة، بلا سند أو دليل، متكئًا فقط على العاطفة ووهج الحكاية.لكن التاريخ لا يرحم. قد يصمت طويلًا، لكنه لا ينسى. وبعد مرور عقود، وربما قرون، قد تخرج الحقيقة من بين ركام التزييف والتضليل، لتواجهنا بوجهها الصارم، مجردًا من العاطفة، ومتسلحًا بالدليل. اليوم نروي القصة كما كانت، لا كما رُويت، نحاول أن نفكك الخيوط المتشابكة، ونجيب عن الأسئلة التي ظلت عالقة: هل حقًا منع الملك فاروق الفريق من السفر كما يزعم البعض؟ ما الذي دفع الاتحاد المصري لكرة القدم إلى رفض هذه الزيارة؟ ولماذا صدر قرار قاسٍ بشطب 14 لاعبًا من أبرز نجوم الأهلي وحرمانهم من اللعب في مصر؟
تبدأ القصة من صفحات جماهير النادي الأهلي، حيث تتداول السردية الأشهر عن رحلة الفريق إلى فلسطين لدعم الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وهي رواية ترتكز على ما ورد في كتاب “النادي الأهلي – بطولة في الرياضة والوطنية” للكاتب والناقد الرياضي الكبير حسن المستكاوي.

بحسب الرواية، جاء إلى القاهرة في الأربعينيات مندوب لإحدى الصحف الفلسطينية في القدس، يُدعى “ليفون كاشيشيان”، حاملاً طلبًا وطنيًا لافتًا، توجه إلى “فؤاد سراج الدين”، وكيل النادي الأهلي ووزير الداخلية آنذاك، وعرض عليه فكرة سفر فريق الأهلي إلى فلسطين لخوض ثلاث مباريات دعمًا للثورة الفلسطينية في وجه العصابات الصهيونية. وبحسب ما ذُكر، فإن “فؤاد سراج الدين” لم يتردد، وأعطى موافقته الفورية على الطلب، مدفوعًا بالحس القومي والانتماء الوطني.تحرك مجلس إدارة الأهلي سريعًا، وبدأ تجهيز أوراق التأشيرات للسفر. لكن المفاجأة كانت في اختفاء هذه الأوراق من وزارة الشؤون الاجتماعية. وتشير الروايات إلى أن المسؤول عن إخفائها كان “محمد حيدر باشا”، رئيس اتحاد الكرة آنذاك، ووزير الحربية، والذي اتُهم بتنفيذ توجيهات من الإنجليز الذين كانوا على علاقة وثيقة بالحركة الصهيونية.ورغم هذه العرقلة، أصر “فؤاد سراج الدين” على تنفيذ المهمة الوطنية، وتكفل شخصيًا بمصاريف التأشيرات. وسافر الفريق إلى فلسطين، ولكن تحت اسم بديل هو “نجوم القاهرة”، لتفادي الاصطدام المباشر مع الاتحاد.رافق الأهلي عدد من لاعبي الأندية الأخرى، وكانت الرحلة في أغسطس عام 1943، حيث استُقبل الفريق بحفاوة بالغة من المفتي الفلسطيني المجاهد “أمين الحسيني”. لكن سرعان ما دخلت السياسة على خط الرياضة، حين وجّه القنصل المصري في القدس، “محمود فوزي”، تحذيرًا إلى البعثة الكروية بعدم خوض المباريات، مستندًا إلى رفض “حيدر باشا” لسفر الفريق منذ البداية.رفض الأهلي الانصياع للتحذير، وأصر اللاعبون، بقيادة النجم التاريخي “مختار التتش”، على استكمال المهمة الوطنية وخوض المباريات، وهو ما أدى إلى رد فعل غاضب من الاتحاد المصري لكرة القدم، الذي بعث برسالة إلى الاتحاد الفلسطيني يعلن فيها رفضه إقامة المباريات. وقد وثقت جريدة “الدفاع” الفلسطينية هذا الخلاف في عددها الصادر بتاريخ 1 سبتمبر 1943.

إصرار الأهلي على اللعب في فلسطين دفع “حيدر باشا” إلى اتخاذ قرار صارم بشطب 14 لاعبًا من المشاركين في الرحلة، وهي خطوة هزت الوسط الرياضي وقتها. وتؤكد صفحات جماهير الأهلي أن هذا القرار أدى إلى حالة من الغليان الشعبي، وصلت إلى مظاهرات أمام قصر عابدين تطالب بإلغاء العقوبات.وفي واحدة من الروايات الأشهر، يُقال إن “حيدر باشا” طلب من مختار التتش تقديم اعتذار، لكن رد التتش كان حاسمًا ووطنيًا: “كنت مع زملائي في رحلة قومية إلى فلسطين، وإني لفخور أن يشطب اسمي من اتحاد كرة يشرف عليه أمثالك.”أما رواية حسن المستكاوي فتضيف أن بعد سفر الفريق تحت اسم “نجوم القاهرة”، قرر اتحاد الكرة برئاسة “حيدر باشا” شطب 14 لاعبًا وإيقاف نشاط الأهلي لمدة شهر كامل. وعندما اقترب موعد بطولة كأس الملك، تدخل “أحمد حسنين باشا” للتوسط لدى الملك، بشرط أن يقدم اللاعبون اعتذارًا رسميًا، وهو ما فتح الباب أمام مفاوضات متوترة.

وذكر المستكاوي أنه بتاريخ 29 سبتمبر 1943، عقد مجلس إدارة النادي الأهلي اجتماعًا في منزل “جعفر والي باشا” رئيس النادي، بمطرية الزيتون، لمناقشة تداعيات القرار الصادم. خلال الاجتماع، تنوعت الآراء بين من يرى أن للاتحاد الحق في منع اللاعبين من خوض مباريات خارج البلاد باعتباره السلطة التنظيمية العليا، وبين من رفض هذا التبرير، مشيرًا إلى أن فريق “اتحاد الجيش” سافر إلى فلسطين دون اعتراض، ما يُظهر ازدواجية في المعايير.أبرز ما جاء في الاجتماع كان تدخل “محمد مدكور” عضو المجلس، الذي أشار إلى أن قرار المنع لم يطبق على الجميع، مما يثير الشكوك حول دوافع الشطب. وانتهى الاجتماع باقتراح من “فكري أباظة” برفع مذكرة رسمية إلى اتحاد الكرة، شملت ملاحظات المجلس، وأبرزها أن العقوبة لم توضح السبب، ولم يسبقها تحقيق رسمي مع اللاعبين، وهو ما يخالف الأعراف القانونية والرياضية. وأضاف المجلس أنه في حال إصرار الاتحاد على موقفه، فإن النادي الأهلي، بكل أسف، لن يكون قادرًا على تشكيل فريق ينافس على بطولات الموسم، بعد حرمانه من أبرز 14 لاعبًا في صفوفه.
هل لعب النادي الأهلي في فلسطين؟
تؤكد الوقائع التاريخية أن النادي الأهلي قد لعب بالفعل في فلسطين، لكن الحقيقة تختلف كثيرًا عن الرواية الرائجة التي وردت في بعض الصفحات المنسوبة لجماهير النادي، والمستندة إلى ما كتبه الناقد الرياضي حسن المستكاوي في كتابه «النادي الأهلي – بطولة في الرياضة والوطنية». إذ تبيّن من المصادر الصحفية الفلسطينية والعربية آنذاك أن الفريق لعب خمس مباريات في الفترة من 26 أغسطس إلى 7 سبتمبر 1943، تحت اسم “نجوم القاهرة”، وليس ثلاث مباريات فقط كما أورد المستكاوي، وهو الخطأ التاريخي الأول الذي وقع فيه.

المباريات التي خاضها الأهلي في فلسطين
بحسب أرشيف جريدة “فلسطين” عدد 27 أغسطس 1943، خاض فريق نجوم القاهرة ثلاث مباريات ضد فرق يهودية ومباراتين ضد فرق عربية. ضد فريق “تل أبيب” خسر الأهلي المباراة الأولى بثلاثة أهداف مقابل هدف، وفاز في الثانية بهدفين دون رد، بينما خسر المباراة الثالثة بأربعة أهداف لهدف. أما أمام الفرق العربية، ففاز على فريق القدس بأربعة أهداف مقابل هدفين، وعلى فريق حيفا بأربعة أهداف نظيفة. وقد غطّت هذه اللقاءات صحف “الدفاع” و”فلسطين بوست” و”الوحدة”، وأكدت تفاصيلها تباعًا، منها عدد 5 و8 سبتمبر 1943… وهذه الوثائق تؤكد هذه النتائج.


أخطاء تاريخية فادحة في الرواية المتداولة
وقع المستكاوي – ومن تبعه – في عدد من الأخطاء التاريخية الواضحة، بعضها يتعلّق بالأشخاص والمناصب، وأخرى بالوقائع الزمنية والسياسية.1. المنصب الوزاري لحيدر باشا: لم يكن “حيدر باشا” وزيرًا للدفاع كما قيل، بل لم تكن هناك وزارة باسم “وزارة الدفاع” من الأساس في تلك الفترة، بل كانت تُسمّى “وزارة الدفاع الوطني”، وكان يتولاها وقتها “أحمد حمدي سيف النصر باشا” ضمن حكومة مصطفى النحاس، من عام 1942 إلى 1944.

2. شخصية ليفون كاشيشيان: تشير وثائق أخرى إلى أن ليفون كاشيشيان، الذي قيل إنه مندوب لإحدى الصحف الفلسطينية وطلب من وكيل الأهلي فؤاد سراج الدين لعب مباريات في فلسطين دعمًا للثورة، لم يكن كذلك. فبحسب جريدة “النداء” اللبنانية عدد 15 فبراير 1959، نقلًا عن كتاب “عصابة الطاشناق في خدمة الاحتلال” للكاتب يغيا نجاريان، فإن ليفون كان جاسوسًا صهيونيًا حُكم عليه بالإعدام لاحقًا، وكان يكتب في صحيفة “الوحدة” الفلسطينية، ولم يكن له ارتباط بـ”الأهرام”، كما زُعم.

3. الخلفية الثورية للرحلة: من المغالطات الشائعة القول إن هذه المباريات كانت دعمًا للثورة الفلسطينية، إذ أن الثورة كانت قد انتهت فعليًا عام 1939، أي قبل سفر الفريق بأربع سنوات كاملة، وبالتالي لا يُعقل أن الرحلة كانت تحت هذا الغطاء السياسي.

4. استقبال أمين الحسيني: ادّعت الرواية المتداولة أن “الشهيد المجاهد” أمين الحسيني استقبل الفريق، وهو أمر مغلوط. فالحقيقة أن أمين الحسيني لم يكن شهيدًا، بل توفي عام 1974، كما أنه لم يكن في فلسطين في أغسطس 1943، بل كان وقتها في أوروبا، متنقلاً بين ألمانيا وكرواتيا، لإشرافه على الفرقة النازية المعروفة بـ”هاندشار”. أما عبد القادر الحسيني، قائد الثورة الحقيقي، فقد كان وقتها في السجون العراقية، ثم استقر لاحقًا في السعودية قبل عودته إلى القاهرة عام 1946.

هل مُنع الأهلي من السفر لأسباب سياسية؟
تزعم الرواية أن قرارًا ملكيًا صدر بمنع الأهلي من السفر، وأن ذلك كان السبب الرئيسي في الأزمة، لكن الأدلة التاريخية تنفي هذا الزعم. فقد سافرت خلال نفس الفترة فرقة الفنانة فاطمة رشدي إلى فلسطين لإحياء حفلات على مسرح “سينما الحمراء”.

كما سافرت الأميرة نازلي – من الأسرة الحاكمة – إلى فلسطين لجمع التبرعات قبل زيارة الأهلي بشهرين. وظهر مصطفى باشا النحاس، رئيس الحكومة، في زيارة رسمية إلى فلسطين في يونيو 1943، ما يعني أن العلاقات السياسية والثقافية والتجارية بين البلدين كانت مستمرة ولم يكن هناك حظر على السفر.


سبب شطب اللاعبين الحقيقي
السبب الفعلي وراء قرار اتحاد الكرة المصري – برئاسة حيدر باشا – بشطب 14 لاعبًا من فريق “نجوم القاهرة” لا يتعلق بالسياسة أو موقف قومي، بل بعدم الالتزام باللوائح التنظيمية. فبحسب جريدة “المقطم” في عددها الصادر 15 أكتوبر 1943، فإن وكيل الاتحاد “حسن رفعت باشا” أوضح أن اللاعبين لم يحصلوا على موافقة الاتحاد للسفر، ما اعتُبر مخالفة تستوجب العقوبة، وهي ذات القاعدة التي طُبقت على فرق أخرى خالفت القواعد. يُذكر أن فريق الجيش المصري لعب هو الآخر في فلسطين بنفس العام، ما يدل على أن السفر لم يكن ممنوعًا، بل مشروطًا بالتصاريح اللازمة.

رد الأهلياجتمع مجلس إدارة الأهلي في 29 سبتمبر 1943 في منزل رئيس النادي جعفر والي باشا بحي المطرية لمناقشة الأزمة. أبدى الأعضاء تباينًا في المواقف، بين من رأى أن الاتحاد له الحق في تنظيم السفر الخارجي، ومن عارض العقوبة وأشار إلى سوابق مشابهة كفريق الجيش. وانتهى الاجتماع بتوصية من فكري أباظة برفع مذكرة رسمية إلى اتحاد الكرة، تتضمن الاعتراض على قرار الشطب، وغياب التحقيق مع اللاعبين، واعتبار القرار ظالمًا وغير مبرر.
تراجع الاتحاد عن العقوبة
الروايات المتداولة تقول إن العفو جاء بعد تدخل الملك بشرط الاعتذار، لكن الحقيقة أن حيدر باشا تراجع عن القرار بعد حملة صحفية موسعة قادتها مجلات مثل “الاثنين” وصحف منها “المقطم” وصحف فلسطينية عديدة. وقد صدر القرار برفع العقوبة نهائيًا في 19 أبريل 1944، دون شرط الاعتذار.قصة سفر الأهلي إلى فلسطين عام 1943 ليست فقط واحدة من أبرز المحطات في تاريخه، بل أيضًا مثال حي على كيف يمكن للتفاصيل أن تُحرَّف في السرد الشعبي. ومن خلال العودة إلى الوثائق الأصلية، والربط بين المصادر المتعددة، يتضح أن القصة أكثر تعقيدًا، وأغنى بالتفاصيل، مما نُقل عن حسن المستكاوي. فرغم النية الطيبة التي حملتها الرواية المتداولة، فإن الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها – سواء في الأسماء أو المناصب أو التواريخ – تُحتّم علينا العودة إلى المصادر الأصلية وقراءة القصة في سياقها الصحيح.