محمد سعد عبد اللطيف يكتب: الضربة القاسية.. إيران على مشارف نظام عالمي جديد

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: الضربة القاسية.. إيران على مشارف نظام عالمي جديد

 

في خضم التحولات الكبرى التي يشهدها النظام العالمي الجديد، حيث تعاد صياغة خرائط النفوذ وموازين القوى، تقف إيران اليوم في قلب العاصفة، تواجه مرحلة غير مسبوقة من الضغوط والاختراقات التي تُنذر بتغييرات جذرية في بنيتها السياسية والأمنية، وربما في شكل وجودها الإقليمي ذاته.

 

فما تتعرض له طهران لم يعد مجرد “استهداف خارجي”، بل يبدو أقرب إلى عملية تفكيك منهجية ومُبرمجة، تُدار على أكثر من جبهة، وتُنفذ بأدوات استخباراتية دقيقة تُجيد العمل من الداخل، وتُتقن توظيف الانقسامات البنيوية داخل النظام نفسه.

انهيار من الداخل.. وليس مؤامرة من الخارج

تُشير المعلومات المتداولة إلى هروب ما لا يقل عن 25 من مسؤولي الملف الأمني إلى إسرائيل، وتورّط شخصيات بارزة في التعاون مع الموساد. هذه المعطيات، إن صحّت، فتعني أن إيران لا تواجه مجرد اختراق أمني، بل انهيارًا صامتًا في البنية الداخلية، وخسارة للثقة حتى داخل أكثر المؤسسات حساسية.

النظام الذي ظلّ لعقود يفاخر بمؤسسات “الحرس الثوري” و”الباسيج” كصمّامات أمان الثورة، بات عاجزًا عن حماية رموزه، فضلاً عن مجابهة العدو الذي يبدو وكأنه يتحرك بحرية داخل العمق الإيراني.

 

وفي وقت تسعى فيه القيادة الإيرانية لتسويق خطاب “المؤامرة الخارجية”، تغيب أي مؤشرات على قدرة الرد الفعلي، سواء سياسيًا أو أمنيًا. بات النظام أشبه بجسدٍ ضخمٍ تتآكله الشروخ الداخلية، أكثر مما تهدّده الطعنات الخارجية.

إسرائيل… اللاعب غير المرئي في قلب طهران

 

في المقابل، تثبت إسرائيل أنها تُجيد خوض حروب “ما بعد الحداثة”؛ حروب العقول والمعلومات، دون أن تطلق رصاصة واحدة في أغلب الأحيان. الضربات الأخيرة، سواء كانت عبر اغتيالات نوعية، أو عمليات اختراق إلكتروني وتجنيد عملاء داخل المؤسسة الإيرانية، تعكس قدرة تل أبيب على إدارة صراع طويل النفس، ذكي الأدوات، فائق التأثير.

 

لم تعد إسرائيل، كما كانت تُوصَف في الماضي، “الكيان المؤقت” أو “العدو الغاصب”، بل أصبحت لاعبًا إقليميًا يمتلك زمام المبادرة، يُعيد تشكيل الخارطة الأمنية للمنطقة من دون أن يخوض حربًا شاملة، مستخدمًا أدوات الناعمة والذكية: التكنولوجيا، المعلومة، التحالفات غير المرئية. من الثورة إلى الدولة الفاشلة

إن المشهد الإيراني اليوم يُعيد طرح سؤال لطالما أُجّل: ما مصير الأنظمة العقائدية حين تفشل في التحوّل إلى دولة مؤسسات؟

النموذج الإيراني، الذي بدأ كثورة ضد الاستبداد، انتهى إلى دولة بوليسية فاشلة، تُكمّم الأفواه، وتلاحق المعارضين، وتمزج الدين بالسلطة في مزيجٍ يُفرّغ الاثنين من معانيهما. فبدلاً من “تصدير الثورة”، أصبحت طهران تصدّر الخوف، وتُنتج الفساد، وتغلق نوافذ الأمل أمام جيلٍ جديدٍ لم يعُد يؤمن بشعارات الثمانينيات ولا بسلاح الأيديولوجيا.

إن النظام الحاكم في إيران يُدار بعقلية الحرب الباردة، ويُسلّح جيشه بذهنية الثأر الطائفي، في زمن تتقدّم فيه الأمم بقوة المعرفة والاقتصاد والتعددية. من هنا، فإن كل ضربة تتلقاها طهران ليست مجرد حدث أمني، بل مؤشر على لحظة انكشاف حضاري وفكري.

تراجع الخطاب المقاوم وانكشاف الشعارات

قد يكون أخطر ما يواجهه النظام الإيراني اليوم ليس الاختراق الأمني، بل الانكشاف الرمزي. فخطاب “المقاومة والممانعة”، الذي روّج له النظام لعقود، لم يعُد يجد جمهورًا مُصدّقًا حتى داخل قواعده التقليدية. الناس في طهران، كما في بيروت ودمشق وصنعاء، يدفعون ثمن شعارات لم تجلب سوى الموت والعزلة والفقر.

 

وفي ظل هذا التراجع الرمزي، فإن الردود الإيرانية المتوقعة – مثل إطلاق مسيّرات نحو قواعد أمريكية، أو تهديدات جوفاء ضد تل أبيب – لن تُغيّر من المعادلة شيئًا. فالحروب الآن تُدار على مستوى المعلومات، والسياسات، والتحالفات الدولية، لا بصراخ الشاشات ولا بقصائد الفداء.

نظام عالمي جديد.. لا يرحم الضعفاء

يبدو أن العالم يدخل حقبة جديدة، تتراجع فيها فاعلية الأنظمة الشمولية، خاصة تلك التي تخلط بين المعتقد والبطش، بين الأيديولوجيا والدبابة. في هذه الحقبة، لا مكان للكيانات المغلقة، ولا للأجهزة القمعية التي تعتقد أنها تحكم إلى الأبد.

النظام الإيراني، بكل مآسيه وأزماته، ليس سوى أول نموذج يسقط تحت عجلات النظام العالمي الجديد، الذي لا يرحم من يعادي الداخل والخارج في آنٍ معًا، ويُصرّ على العيش خارج منطق العصر… ,!