سحر الحسيني تكتب: أنس الدغيم، رمز الوجدان الثوري.. عندما يربط روحه بلافتات تسير في دروب الحياة.

أنس إبراهيم الدغيم، شاعرٌ وكاتبٌ سوري، وُلد عام 1979 في بلدة جرجناز بمنطقة معرة النعمان في محافظة إدلب، ونشأ في كنف أرضٍ تعرف جيدًا كيف تُنجب الشعراء من رحم الرماد.


درس الهندسة المدنية في جامعة دمشق، ثم الصيدلة في جامعة فيلادلفيا بالأردن، وتخرّج عام 2008.
لكن الشعر لم ينتظر تخرّجه…

نشر ديوانه الأول مطلع الألفية، ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحوّل شعره من التأمل إلى المقاومة الجمالية، فصار كل بيتٍ في قصائده حنجرة، وكل لافتة جداريةً داخل القلب.


تحوّلت القصيدة إلى بيان، والكلمات إلى مقاومة ناعمة.

لم يكن أنس شاعر رثاء، بل شاعر بقاء.
كتب للحياة في وجه الموت، وللحب في ظلّ الغياب، وللوطن وهو يُتهجّى أسماءه من تحت الركام.

في كتابه «100 لافتة للحياة»، لم يكن أنس الدغيم شاعرًا وحسب، بل كان لافتةً متنقلة على قارعة القلب، يكتب من المنفى الداخلي قبل أن يكتب من الجغرافيا الجريحة.
لا يحمل الشاعر اللافتات ببرودٍ أرشيفيّ، بل يعلّق على كل لافتة دمعةً مؤجّلة، أو ابتسامةً نجت من القصف.
كل لافتة تلمحكِ كأنها تهمس:
“هنا كان يعيش الحُلم، إلى أن قصفوه.”
“وهنا… بقي ظلّه واقفًا، حتى حين فرّ الجسد.”

لا يكتب بمنطق العرض، بل بروح الناجي،
كأنّ كل لافتة سجادةُ صلاةٍ منشورة على أرضٍ مبللة بالشهداء.

في كتابه، لا تحمل “اللافتة” وظيفة تنبيهية فحسب، بل تصبح أداة هوية،
مرآة تعكس ألوان القلب، أو تذكّرنا بملامحنا عندما كنّا نحبّ.
كل لافتة تقول:
“كُن كما كنت قبل أن تهرب من ذاتك.”
“لا تنسَ مَن صرتَ لأنك تألمت.”
“دع قلبك يختار الطريق، ولو سُمّيت خيانةً للعقل.”

وهو ما يجعل من هذا العمل أكثر من كتاب… بل خريطة وجدانية للحياة نفسها.

لم ينجُ من الحرب، ولا أراد النجاة.
اختار أن يكون داخل الرصيف، جنب العابرين المخلوعين من الذاكرة، وأن يحمل حقائبهم وينادي على أحلامهم:
“إني الدمشقيُّ… واليمنيُّ… والقدسيُّ… والمغربيُّ… كلّ الجهات روحي، وكلُّ الأسماء وَطَن!”

في شعره، لا يتظاهر أنس بالحكمة ولا يتغنّى بالخراب؛
بل يحمل جراحه في راحته ويصوغ منها لافتةً حيّة، تنزف ولكنها لا تموت.
اللافتة عنده ليست عنوانًا، بل مقطعٌ من حبل نجاة، أو جرس إنذار، أو قبضة من ترابٍ تفلت من بين أصابع طفلٍ في طريقه إلى مدرسة قُصفت.

أنس يكتب وكأنه معلّقٌ بين يدي السماء، لا يطلب مطرًا، بل يستنطق الغيم.
يخاطبه كمن يعرفه جيدًا:
يعرف كم دمعةً خبّأها، وكم روحًا لم تعد، وكم اسمًا كُتب على تابوت ولم يُولد بعد.
لا يصطاد الغيم ليصفه، بل يعيش فيه.
الغيمة عنده ليست ظاهرة جوية، بل كائنٌ شعري حيّ،
يسير على قدمين ويمسح جبين البلاد.

“يا غيمتي…
لا تهبطي خائفةً على أطراف القصيدة
دعيني أحرث فيكِ قصيدةً للأرض، لا للألم.”

هكذا يُحوّل الحزن إلى تراتيل، والغربة إلى ما يشبه الغناء في المسافة بين الله والإنسان.
في «100 لافتة للحياة»، لا تحمل كل لافتة رقمًا وحسب، بل أثرًا نفسيًا ومعنويًا…
كأنّ كل لافتة أمّ فقدت ابنها، أو غيمة هجرت ضفافها، أو عينٌ تبحث عن المدينة في عين أمّها.

اللافتة الأولى، والأخيرة، والتي تسبقها والتي تليها… كلها أنس.
كلها تسبح في سماء الوجدان، معلّقة لا بحبال القصائد بل بضمير اللغة، ونبض القلب العربي الجريح.

في حضرة شاعرٍ من حرير النار، نرى:
أنس ليس شاعر قصيدة، بل شاعر موقف.
قصائده تُقرأ بصوت الداخل، لا بصوت الحنجرة.
كأنك تضع يدك على نبض العالم العربي، فتسمع منه نبض شاعرٍ حقيقيّ، لم ينكسر أمام الخراب، بل كسره واستخدم شظاياه ليكتب بها الشعر.

حين يكتب أنس، لا يكتب “لافتة للحياة” فحسب…
بل يكتب كأنّه آخر الشهود على الحياة، وآخر الشعراء في مدينةٍ تنفجر.

إنه كاهن الوجدان الثوري، يعرف أن الشعر لا يُطلق الرصاص،
لكنه يعرف أيضًا أن القصيدة الحقيقية قد تغيّر وجه التاريخ لو وُلدت في التوقيت الصحيح.

أنس لم يغادر وطنه، بل حملهُ في حروفه.
حين يُقرأ، لا يُعرف إن كنا نقرأ شاعرًا أم طفلًا عائدًا من تحت الركام وهو يقول:
“كتبتُ اسمي… فظهر الوطن.”
وحده أنس الدغيم… يقدر أن يخلط الحزن بالهوية، والدمعة بالقافية، والنشيد بالصمت،
ويصنع من كل ذلك… غيمةً باسمك.

لافتاته ليست أوامر ولا دروسَ حياة، بل جمرات دافئة،
يضعها الشاعر في يد قارئه قائلًا:
“خُذ… هذا من تحت قلبي مباشرةً.”