مظهر شاهين يواجه: عن معلمي الدكتور محمود السيد شيخون… العالم البارز وشيخ البلاغيين
في تاريخ الأزهر الشريف، تمرّ أسماء كما تمرّ الكواكب المنيرة، تضيء العقول، وتبهج القلوب، وتترك في الدنيا أثرًا لا يُمحى. ومن بين هؤلاء الأفذاذ، يبرز اسم العالم الجليل، والبلاغي الكبير، الأستاذ الدكتور محمود السيد شيخون، أحد أبرز أعلام المدرسة البلاغية المعاصرة، وعالمٌ ربانيٌّ اجتمع فيه صدق الإيمان، وعلو البيان، وصفاء السريرة، ورفعة السيرة.
ميلاد عالم
وُلد الدكتور محمود شيخون في الخامس عشر من نوفمبر عام 1938 بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، ذلك الإقليم الذي طالما أنجب للأزهر رجاله الأعلام.
التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وتخرّج فيها عام 1966، حاصلًا على الإجازة العالية في الشعبة اللغوية بتقدير “جيد جدًّا مع مرتبة الشرف”، ثم نال درجة التخصص (الماجستير) في البلاغة عام 1968 بتقدير “جيد جدًّا”، ثم حصل على درجة العالمية (الدكتوراه) في البلاغة والنقد عام 1971 بتقدير “مرتبة الشرف الأولى”، وهي أعلى درجة علمية تُمنح في الأزهر.
منابر التدريس والمناصب العلمية
بدأ مسيرته العلمية مُدرِّسًا بالأزهر عام 1967، ثم معيدًا بقسم البلاغة بكلية اللغة العربية عام 1969، وتدرّج في المناصب الأكاديمية: مدرسًا مساعدًا، فمدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، حتى بلغ درجة الأستاذية عام 1980 بكلية الدراسات الإسلامية والعربية – بنين بالقاهرة.
وتقلّد خلال مسيرته مناصب علمية رفيعة، منها:
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها عام 1987
وكيل الكلية عامي 1988 و1994
عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية – بنين بالقاهرة عام 1994
نائب رئيس جامعة الأزهر لشؤون التعليم والطلاب عام 2002
وكان من محطات عطائه العلمي المضيئة انتقاله إلى رحاب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، إذ تولّى رئاسة شعبة البلاغة والنقد بالدراسات العليا، ودرّس في برامجها أستاذًا ومرشدًا وموجّهًا. فكان سفيرًا للأزهر بعلمه وخلقه، وترك أثرًا طيّبًا في نفوس طلابه هناك، كما تركه في مصر.
وقد شهد له القاصي والداني بجزالة علمه، ورفق أسلوبه، وعمق رؤيته في تحليل النصوص البلاغية وتفكيك أسرار البيان القرآني.
العالم الإنسان
لم تكن عظمة الدكتور شيخون في مناصبه، بل في إنسانيته وعلمه وتواضعه. رأيته يومًا، وهو عميد للكلية، واقفًا في أتوبيس النقل العام من أمام الجامع الأزهر إلى ميدان العباسية، وسط الزحام وحر الصيف.
لم يجد مقعدًا، فظل واقفًا طوال الرحلة، شامخًا بتواضعه، مرفوع الرأس بخلقه، وكأنما كان يُلقي على الواقفين درسًا صامتًا في مكارم السلوك.
الأب والمربّي والموجّه
تشرفت بأن كنت من طلابه المقربين، حين أشرف على رسالتي للماجستير، فوجدت فيه أبًا حنونًا، ومعلّمًا حكيمًا، وموجّهًا أمينًا. كان يُصرّ على أن أقرأ عليه البحث كلمة كلمة، وكان يأتي – رغم كِبَر سنه – إلى منزل المرحوم اللواء الدكتور فتحي عبد الرازق بالمقطم، حيث كنا نلتقي ونتدارس، وكان يشجعني على إبداء الرأي، ويقول: “دع شخصيتك البلاغية تظهر في كل سطر.”
وكان بحثي في البلاغة القرآنية، من خلال دراسة تحليلية بلاغية لتفسير التحرير والتنوير في سورتي آل عمران والنساء، وهو البحث الذي قرأه سطرًا سطرًا، وعلّق عليه بحب واهتمام، كأنما كان مشروعه العلمي لا مشروعي وحدي.
وفي إحدى الجلسات، استدركتُ على الإمام الطاهر بن عاشور، وقلت: “ولعل ذلك من سهو العارفين”، فإذا به، وقد كانت عيناه مغمضتين، يفتحهما فجأة، ويقول من أعماقه: “الله!”… كلمة واحدة، خفيفة على اللسان، ثقيلة بالمعنى، كانت وسامًا لا أنساه.
المدافع الصلب عن طلابه
في يوم مناقشة الرسالة، رأيته كما لم أره من قبل: أسدًا في ميدان العلم، يدافع عن طلابه، يشرح نواياهم، ويبيّن أوجه صوابهم، ويفنّد ما التبس على المناقشين، بحكمة العالِم وعدالة المربّي.
مؤلفاته… ذخائر خالدة
ترك شيخ البلاغيين تراثًا علميًّا ثريًّا، ومؤلفات نفيسة، صارت مراجع للدارسين والباحثين، منها:
1. المدرسة المصرية في القرنين السابع والثامن الهجريين ودورها في البلاغة العربية
2. الإعجاز في نظم القرآن
3. أسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن الكريم
4. أسرار التكرار في لغة القرآن
5. الاستعارة وأثرها في الأساليب العربية
6. الأسلوب الكنائي في اللغة والقرآن
7. نظرات في التمثيل البلاغي
8. من أسرار البلاغة في القرآن
9. قطوف من البلاغة النبوية
10. دراسات في الأدب والنقد
11. دراسات في البلاغة العربي
12. البلاغة الوافية (في أربعة أجزاء)
13. من هدي النبوة في الحديث النبوي الشريف
14. محاضرات في علم البيان
15. محاضرات في علم المعاني
وهذه المؤلفات لم تكن بحوثًا جافة، بل كانت أنفاسًا علمية حيّة، تُعبّر عن ذوق رفيع، وفكر عميق، وصدق نية.
رحيله… وبقاء الأثر
لم يُمهله القدر، فوافته المنيّة قبل أن أُتمّ إعداد رسالة الدكتوراه، فرحل إلى ربه وقد ترك في قلبي – وفي قلوب محبيه وتلاميذه – أثرًا لا يُنسى، وفضلًا لا يُرد، وسيرة لا تُمحى.
كان رجلًا يُربّي بالقدوة، ويعلّم بالصمت قبل النطق، ويغرس العلم كما يغرس الرحمة.
في زمنٍ عزّت فيه القدوات، وكثر فيه المتصدّرون بلا رصيد، نحن بحاجة إلى أمثال الدكتور محمود شيخون: العالم الذي جمع بين الأصالة والتجديد، وبين التواضع والمكانة، وبين العلم والنُّبل.
اللهم اجعل علمه صدقة جارية، وارزقه الفردوس الأعلى، وألحقنا به في الصالحين، وانفعنا بما ترك من نورٍ وهُدى وأدب.