ثقة عبر الإنترنت أم انقطاع اجتماعي؟.. الجانب الآخر لتوظيف الذكاء الاصطناعي

عندما أُطلق «تشات جي بي تي» قبل أكثر من عامين، كان الغرض منه في الغالب المساعدة في مهام مثل تلخيص النصوص، وإصلاح الأكواد البرمجية، والمساعدة في حل الواجبات التعليمية. لكن هذا التصور، مثله مثل كثير من الأمور الأخرى، يتوسع الآن، خاصة بين أفراد الجيل «Z».
تشير التقارير إلى أنه بالإضافة إلى ما سبق، يلجأ المستخدمون الشباب إلى التطبيق بشكل متزايد للحصول على نصائح حياتية ومهنية متنوعة. تراهم يسألون، على سبيل المثال، عن جدوى قبول وظيفة ما وكيفية التعامل مع توتر اليوم الأول في العمل، أو كيف يجتازون محادثة صعبة مع مديرهم، أو حتى ماذا يكتبون في رسالة الانفصال للشريك!
لكن الأمر لم يعد مقتصراً على جيل «Z» فحسب، فالتأثيرات طالت جيل الألفية أيضاً، الذي بات أفراده يستشيرون «تشات جي بي تي» في ما إذا كان عليهم شراء منزل أكبر، أو البدء بمشروع صغير لدرجة أن بعضهم ذهب لسؤال روبوت الدردشة عما إذا كان الوقت قد حان للزواج، وأي نوع من النساء يناسب الحياة التي يسعى إلى بنائها.
كل هذه السلوكيات تعكس اعتمادنا المتنامي على أنظمة الذكاء الاصطناعي للتوجيه العاطفي والعملي، ما يثير تساؤلات جدية حول آثار اللجوء إلى الخوارزميات في اتخاذ القرارات الشخصية المهمة.
السرعة والموثوقية
في ظل الظروف المضطربة، ينجذب الناس نحو الأدوات التي تُقدم إجابات سريعة ودون إصدار أحكام وهذا جزء من سبب شيوع استخدام روبوتات الدردشة بين الجيل الجديد.
وقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة «Resume.org»، شمل 8647 عاملاً في الولايات المتحدة أن جيل «Z»، أكثر من أي فئة عمرية أخرى، يتعاطى مع «تشات جي بي تي» كإنسان توكل إليه أدوار مختلفة. وقال 51% من المستخدمين، إنه زميل عمل موثوق به، فيما عدّه 32% رفيقاً، و21% معالجاً نفسياً، ورآه 36% مصدراً للترفيه.
وقد أشار سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» مطورة روبوت الذكاء الاصطناعي التوليدي العصري، في وقت سابق، إلى أن الكثير من الشباب «لا يتخذون قرارات حياتية دون استشارة تشات جي بي تي».
متاحٌ دائماً
إن «تشات جي بي تي»، ببساطة، متاح دائماً على جميع الأجهزة الالكترونية المحمولة. ويمكن استخدامه بشكل مجهول أو غير ذلك، مع سهولة الوصول إلى المعلومات. لذا ليس من المستغرب اللجوء إليه قبل سؤال المدير. وتشرح إيرينا بيتشورا، مدربة التوجيه المهني، أن الذكاء الاصطناعي يُشعر هذه الفئة من المجتمع بأنه أكثر كفاءة وأماناً عاطفياً من وسائل التوجيه التقليدية، خاصةً في البيئات النائية أو عالية المخاطر.
مساحة آمنة
الأهم من ذلك كله، أن أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل «تشات جي بي تي»، وعلى عكس البشر، لا تفقد صبرها، ولا تضيع وقتها في تقديم الاقتراحات. فبالنسبة للكثير من المستخدمين الشباب، خاصةً أولئك الذين يواجهون تحديات في حياتهم المهنية أو في الصحة النفسية، يُعدّ هذا مزيجاً قوياً. ويعني أيضاً أنه لا يوجد حرج في طرح سؤال قد يبدو غبياً لو طُرح على بشر، ولا توجد أي مخاطر عاطفية في الكشف عن الشكوك أو المخاوف.
ما هي المخاطر الحقيقية لتوجيه الخوارزميات؟
على الرغم من كل الفوائد التي سبق ذكرها، لا تزال هناك مخاطر كبيرة، لا سيما عندما يتعامل المستخدمون مع الواجهات الرقمية كسلطة نهائية تُغني عن التواصل البشري الحقيقي أو نصائح الخبراء. وتشمل المخاوف الأكثر إلحاحاً في العصر الحديث ما يلي:
1. المعلومات المضللة وسوء التقدير
لا يُقدّم «تشات جي بي تي» دائماً إجابات دقيقة، ويفتقر إلى السياق اللازم لتقييم ما هو سليم عاطفياً، أو قانونياً، أو حكيم مهنياً. كما أنه يختلق الإجابات أو يُبسطها بشكل مُفرط. وكلما زاد اعتماد المستخدمين عليه كوجهة نهائية في عملية صنع القرار، عكست هذه الخيارات أنظمةً غامضة من الاحتمالات والاقتراحات بدلاً من الرؤية البشرية المستنيرة.
2. تآكل الثقة باتخاذ القرار
تُحذّر دراسة لجامعة بورنموث البريطانية، من أن الإفراط في استخدام «تشات جي بي تي» وغيره من روبوتات الدردشة، قد يُضعف الثقة في اتخاذ القرارات الشخصية، ويؤثر سلباً في القدرة على مواجهة تحديات الحياة باستقلالية، خاصةً لمن يمرّون بمرحلة التكوين. ومع مرور الوقت، يُمكن أن يُسهم الاعتماد المفرط على الأنظمة الالكترونية في العزلة الاجتماعية، وتراجع المهارات الشخصية، وقلة فرص التواصل في الحياة الواقعية، وهي مشاكل ترتبط غالباً بإدمان الإنترنت.
3. التحيز الخفي والنقاط الثقافية العمياء
تتضمن بيانات التدريب التي تستند إليها هذه النماذج معايير اجتماعية واسعة النطاق، متضاربة أحياناً، ومُستقاة من جميع أنحاء الشبكة العنكبوتية. وما يُقدَّم على أنه نصيحة موضوعية قد يكون في الواقع مزيجاً من تحيزات متأصلة، وافتراضات خاطئة، وصور نمطية بالية، أو تحريف ثقافي خفي. وعلى الرغم من أن «تشات جي بي تي» ليس وصياً صريحاً، إلا أن نبرته الواثقة قد تجعل الردود تبدو كأنها إجابات حاسمة.
4. محاكاة التعاطف لا الفهم الحقيقي
قد يُحاكي الذكاء الاصطناعي التعاطف، لكنه يفتقر إلى الوعي البشري. فهو لا يستطيع تفسير نبرة الصوت، أو ملاحظة لغة الجسد، أو التيارات العاطفية الخفية. كما أنه لا يبني ذاكرة للتجارب المشتركة، ولا يُقدّم مساءلة حقيقية، وهي عناصر أساسية عند التعامل مع قضايا شخصية أو حساسة للغاية.
الثقة بـ «التقنية» أكثر من الإنسان
أصبحت الثقة بالذكاء الاصطناعي تُضاهي، أو تتجاوز، تلك الممنوحة للمستشارين البشريين. وقد وجدت دراسة أجرتها «Pearl.com» أن 41% من الجيل Z يثقون بالذكاء الاصطناعي أكثر من الإنسان. وينطبق هذا بشكل خاص على بيئة العمل، حيث يُفضل 50% من الشباب مناقشة مشاكل العمل مع الذكاء الاصطناعي على المديرين. وهو شعور لا يشاركهم فيه سوى ثلث جيل طفرة المواليد.وبالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى العلاج أو الإرشاد أو مجتمع آمن، بسبب العوائق المالية أو الثقافية أو الجغرافية، يُصبح «تشات جي بي تي» بمثابة منصة استماع منخفضة المخاطر. ورغم أنه ليس علاجياً بالمعنى السريري، إلا أنه يُساعد المستخدمين على تطوير تفكيرهم الخاص ومواجهة التحديات من خلال تقديم مدخلات محايدة ومتجاوبة.