المُصلح البارز: قصة قائد غيّر مسارات الهند بهدوء

في زمنٍ تعلو فيه الأصوات وتغيب فيه الحكمة، تبرز الحاجة إلى قادة يصنعون الفرق بلا ضجيج، لا يُقاس الأثر السياسي بطول الخطاب أو سطوة الصورة، بل بمتانة القرارات وبناء المؤسسات. من هنا، تُستعاد تجربة لال بهادور شاستري بوصفها نموذجاً نادراً للقيادة الرصينة والفاعلة.
في كتابه الجديد «المُصالِح العظيم: لال بهادور شاستري وتحوّل الهند»، الصادر عن دار بلومزبري الهند في مارس (آذار) 2025، يعيد الكاتب والبيروقراطي الهندي المخضرم سانجيف تشوبرا تسليط الضوء على ثاني رؤساء وزراء الهند المستقلة، في محاولة جادّة لإعادة الاعتبار لرجل يُنظر إليه كثيراً بوصفه ظلاً باهتاً في ظل زعامة نهرو الكاريزمية وخلفائه الأكثر صخباً.
يقدّم تشوبرا سيرة سياسية دقيقة ولافتة لشاستري، ذلك الرجل الذي رغم قامته القصيرة وصوته الهادئ، لعب دوراً محورياً في ترسيخ أسس الدولة الهندية الحديثة، لا سيما في مجالي الأمن الغذائي والدفاع الوطني، كانت فترة رئاسته للحكومة لا تتجاوز الثمانية عشر شهراً خلال 1965-1966، لكنها حفلت بقرارات جسورة وسياسات مؤسِسة، تمثل اليوم جزءاً لا يتجزأ من بنية الدولة الهندية.
يعتمد الكتاب على بحوث أرشيفية دقيقة ومراسلات رسمية وشهادات تاريخية لتفكيك صورة شاستري التي كثيراً ما اختُزلت في عبارة «رجل قليل الكلام»، يكشف تشوبرا أن هذا الصمت لم يكن دليلاً على التردد أو الضعف، بل كان أداة سياسية مدروسة، أتاحت له تمرير إصلاحات استراتيجية، من بينها إطلاق اللجنة الوطنية لتسعير المنتجات الزراعية وتأسيس مؤسسة الغذاء الهندية والهيئة الوطنية لتطوير الألبان، التي مهدت الطريق أمام ما يُعرف بـ«الثورة الخضراء» التي أنقذت الهند من شبح المجاعة، ورسخت مفهوم الاكتفاء الذاتي.
على الصعيد الأمني، يُعيد الكتاب التذكير بدور شاستري في قيادة الجيش الهندي خلال حرب 1965 مع باكستان، كما أسس مؤسسات أمنية ما تزال قائمة إلى اليوم مثل قوات أمن الحدود ومكتب التحقيقات المركزي، لكن ما يجعل الكتاب مميزاً بحق، ليس فقط حجم المعلومات التي يقدّمها، بل قدرته على إعادة تشكيل سردية سياسية أكثر توازناً عن الهند ما بعد نهرو.
يتبنّى تشوبرا نبرة تحليلية بعيدة عن التقديس، لكنه يُنصف شاستري كقائد مارس «فن الممكن» في أصعب المراحل ونجح في إقناع الشارع الهندي بشعار بسيط لكنه بليغ: «تحيا الجندية، ويحيا الفلاح»، رابطاً بين الأمن القومي وأمن الغذاء، في وقت كانت الهند لا تزال في طور التأسيس، يقدّم شاستري نموذجاً مختلفاً، زعيماً لا يحكم بالصوت المرتفع ولا عبر استعراض القوة، بل عبر بناء مؤسسات راسخة وصياغة لغة وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والدينية وفي هذا السياق، يصبح الكتاب مرآة نقدية غير مباشرة تعكس التحولات التي شهدتها الهند خلال العقود الأخيرة وتنبه إلى فقدان القيم التي مثّلها شاستري في إدارة الخلافات وممارسة الحكم الرشيد.
يلفت الكاتب النظر إلى التناقض بين بساطة شاستري الشخصية وتعقيد الملفات التي واجهها، من أزمة الغذاء الحادّة، إلى الحرب مع باكستان، إلى ضرورة ترميم ثقة الناس بمؤسسات الدولة بعد وفاة نهرو، يذكّرنا الكتاب بأهمية القادة الذين يُعيدون تعريف السلطة لا بوصفها امتيازاً شخصياً وإنما مسؤولية جماعية تتطلب الإنصات والعمل الدؤوب في الظل.
لا شك أنه في عالم متغيّر، حيث تتصاعد فيه النزعات القومية وتحضر فيه لغة العداء بين الجيران، يعيد هذا الكتاب التأكيد على أن بناء السلام الداخلي والخارجي ممكن فقط عبر تثبيت أدوات العدالة الاجتماعية والإنصاف الاقتصادي وليس الخطابات الصدامية، لقد ربط شاستري بين الزراعة والدفاع، بين الأمن الغذائي والأمن القومي، في مقاربة شاملة لا تزال ملهمة اليوم في وقت تتشابك فيه الأزمات المناخية والاقتصادية والجيوسياسية. ومن هذا المنظور، فإن «المُصالِح العظيم» هو دعوة إلى مراجعة النموذج القيادي القائم واستعادة البوصلة نحو قيم النزاهة والتوازن والتواضع في الحكم.