راندي باوش وكتاب “الدرس الأخير”

راندي باوش وكتاب “الدرس الأخير”

قدّم راندي باوش، الأستاذ في جامعة كارنيجي ميلون، في كتابه «المحاضرة الأخيرة» في 18 سبتمبر/أيلول 2007 ما يشبه الوصية أو الاعتراف الخاص باللحظات الأخيرة في عمر الإنسان، وذلك بعد أن بات جسمه في حالة يرثى لها، وأصابت كبده عشرات الأورام، ولم يبقَ له في الحياة سوى أشهر معدودة.
لجامعة كارنيجي باع طويلة في هذا النوع من المحاضرات، وقد أعادوا تسميتها لتصبح تحت عنوان «مشوار حياتي» حيث يطلبون من أساتذة، يقومون بانتقائهم، أن يلقوا الضوء على حياتهم الشخصية والمهنية، في هذا الوقت كان راندي باوش قد عرف أنه مصاب بسرطان البنكرياس، ومع ذلك لم يفارقه التفاؤل، وفي الأسبوع ذاته ثبت ماتلقاه من علاج فشله، ولم يبقَ في العمر سوى أشهر معدودة، ومع ذلك لم يعتذر عن المحاضرة.
كان باوش مقتنعاً تماماً بأنه يجب ألّا يصبّ تركيزه في المحاضرة على إصابته بمرض السرطان، فلم يهتم بالحديث عن رحلته مع المرض والعلاج، بل عن الآفاق التي تفتح ناظره عليها، وقد اعتقد كثيرون أنه سيتحدث بلسان الموتى لكن حديثه لم يكن إلا عن دنيا الأحياء، واصطدم بتحدٍّ آخر اتخذ شكل سؤال: ما ذاك الشيء الذي يجعله متفرداً؟ الإجابة كان من شأنها أن تشكل جوهر المحاضرة، كان وزوجته في عيادة الطبيب، وقال لها: «السرطان ليس بالشيء الفريد، الكل يعلم هذا، فهناك ما يربو على 37 ألف فرد أمريكي يصابون سنوياً بسرطان البنكرياس فقط».
فكّر جدياً في أن يقدّم نفسه في هذه المحاضرة في صورة المدرس وعالم الكمبيوتر والزوج والأب والصديق والأخ والناصح لطلابه، فكل تلك الأدوار تقلدها، لكن هل هذه الأدوار هي ما يجعله شخصاً متفرداً؟ يقول: «على الرغم من أنني كنت أشعر وكأنني معافى في بدني، إلا أنني كنت أدرك أن هذه المحاضرة تتطلب أموراً لا تقتصر فقط على شجاعة المرء، بل تتخطى حدود ذلك، وسألت نفسي: ترى ما الذي أستطيع تقديمه في هذه المحاضرة وأنا بمفردي؟».
كل هذا طرحه باوش بعيداً، حين واتته الفكرة، فالحديث عن الأحلام التي طالما راودته في طفولته، المعقول منها والغريب، التي سعى دوماً لتحقيقها، ونجح في الوصول إلى معظمها، والطريقة التي مكّنته من تحقيقها، كل ذلك كان علامة مميزة له على مدار سنوات عمره الخمس والأربعين، وأدرك أنه على الرغم من إصابته بالسرطان، رجل ابتسم له الحظ، ذلك لأنه عايش تلك الأحلام بفضل تلك الأشياء، التي تعلمها من الناس، طوال حياته، وهنا يقول: «قلت لنفسي لو استطعت أن أقدّم مشوار حياتي بتلك العاطفة التي أشعر بها فأعتقد أن محاضرتي هذه قد تضع أقدام أناس آخرين على طريق تحقيق أحلامهم».
تجاوز وقوف باوش على خشبة المسرح ساعة كاملة، وفي ضوء الآثار الجانبية للعلاج الكيماوي، وطوال فترة وقوفه على قدميه، وما انتابه من انفعالات وعاطفة، بدأ يشعر بنفاد قوته، وفي الوقت ذاته شعر بالراحة، وبتحقيق هدفه، فها هو عقد حياته قد انفرطت آخر حباته، لقد بدأ باستعراض قائمة أحلام طفولته منذ أن كان في الثامنة من عمره، وبعد 38 عاماً يقول، إن تلك الأحلام هي التي ساعدته على أن يقول ما يحتاج إلى قوله في هذه المحاضرة.