«الثلث الجلي».. لمسة نسائية تبرز جمال الكتابة
الشارقة: رضا السميحيين
في فضاءات الخط العربي، ارتبط الإبداع والقدرة الخطية غالباً باسم الخطاطين من الرجال، الذين كان لهم الدور الأبرز في صياغة مدارسه، وساهموا في وضع القواعد الفنية للخط وتطوير أساليبه وأنماطه عبر التاريخ، حتى غدا هذا الفن في نظر الكثيرين جزءاً من المجال الذكوري بامتياز، ولكن في وسط الحضور الفني المكثف لإبداع الرجل، برزت أسماء نسائية تفرض نفسها كمجتهدات وصاحبات بصمة ومدرسة فنية.
لم يخل المشهد الفني للخط العربي من بصمة نسائية خاصة، إذ استطاعت بعض الفنانات أن يشققن طريقهن داخل هذا الفضاء الإبداعي، ويقدمن أعمالاً تنبض بخصوصية أنثوية تعبر عن رؤيتهن الجمالية وهويتهن الفنية، ومن أبرز هذه الأسماء المبدعة الخطاطة ثريا سيد، التي تمزج بين البراعة التقنية، والحس الجمالي، والنفس التأملي العميق في اختيارها للنصوص القرآنية، كما يتجلّى في عملها البديع الذي خطّت فيه الآية الكريمة: «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا»، سورة الطور، الآية 48.
*خصائص
تعتبر الخطاطة ثريا سيد التي ولدت وترعرت في لندن، واحدة من الأقلام النسائية المبدعة في فن الخط العربي الإسلامي، وقد حصلت على الإجازة في الخط العربي الإسلامي من منظمة أرسيكا في إسطنبول، والناظر لأعمال ثريا سيظن للوهلة الأولى أنها قطعة أثرية من التاريخ الإسلامي العريق، تحمل تجليات فنية تتقاطع فيها جماليات الخط العربي الأصيل وعبق وسحر الماضي.
اختارت الخطاطة في إبداع لوحتها خط «الثلث الجلي»، وهو الخط المفضل عند نخبة الخطاطين لما ينفرد به من خصائص فنية تعطي للفنان مساحات وفضاءات لتجليات الحبر والروح، إذ يعتبر من أروع الخطوط العربية جمالاً و كمالاً، وهو أكثر صعوبة من الخطوط الأخرى من حيث القواعد والموازين، وفيه تتجلى عبقرية الخطاط في حسن تطبيق القواعد الخطية مع جمال التركيب، وقد استعمل بكثرة للكتابة على جدران المساجد والقصور، وفي التكوينات الخطية المعقدة وذلك بسبب مرونته، وإمكانية سكب حروفه من كل الاتجاهات.
والمعروف لدى العديد من الخطاطين أن «الثلث الجلي» خط دقيق التكوين صارم القواعد، ويعتبر امتحاناً للعين واليد والروح، فلكل انحناء حرف ميزان محكم، ولكل امتداد حساب، ولا تقبل فيه الغفلة أو التسرع، وأن تخطّ به امرأة، بهذا الإتقان المدروس، يعني أنها امتلكت أدواتها وزاوجت بينها وبين رؤيتها الخاصة كأنثى، فالمرأة الخطاطة تقدم النص بروحانية مختلفة ليست محايدة، بل تضفي على الحرف هدوء القلب الذي عرف مذاق الصبر.
*تأمل
التركيب البصري في هذه اللوحة يختار الشكل الدائري، وهو اختيار ذو دلالات ثقافية وبصرية ثرية. فالدائرة في الثقافة الإسلامية ترمز إلى الكمال، الوحدة، والديمومة. وكأن الآية القرآنية هنا لا تقرأ من بداية إلى نهاية، بل يطوف بها البصر كما يطاف حول الكعبة، حركة لا تنتهي، وحضور روحاني لا يغيب.
حروف «واصبر» ترتفع بانسيابية نحو الأعلى، لتقود العين مباشرة إلى «فإنك»، ثم تهبط بانسياب خفيف نحو «بأعيننا» التي تأتي كخاتمة مطمئنة، تستقر فيها الحروف كمن يجد ملجأه بعد عناء، في تكوين عام يوحي بتصاعد وجداني ينتهي بسكون داخلي، وهذا ما يعكس المعنى نفسه للآية الكريمة، الصبر في البداية، والعين الإلهية الراعية في النهاية.
جاءت المسافات بين الحروف في اللوحة محسوبة بعناية، لا تزدحم ولا تفرغ، منظبطة بشكل ساحر، وكأن الفنانة أرادت ترك فسحة للتأمل بين كل كلمة وأخرى، مع هذا الفراغ المدروس المحيط بالدائرة الحروفية، ليمنح اللوحة بعداً تأملياً، ليس فقط للقراءة الفنية البحتة، بل للتذوق والسكينة.
اللوحة محاطة بإطار أزرق بحري، يوحي بالصفاء والعمق، جاء المعنى اللوني متعدياً مضمون الزينة الفنية، ليكون امتداداً للمعنى، إذ يرتبط اللون الأزرق بشكل عام بالسكينة، والثقة، والموثوقية، كما يرمز إلى الروحانية، والحماية، والهدوء. وهنا، يضاعف من وقع عبارة «بأعيننا» ويحول اللوحة إلى لحظة روحية متكاملة.
أما الخلفية الداخلية بلونها الترابي الفاتح، فتخلق توازناً بصرياً مع الحبر الأسود للحروف، وتُشبه رقعة قديمة من ورق البردي، ما يمنح النص رهبة النصوص القديمة، ويجعل المتلقي يشعر أنه أمام أثر، لا مجرد لوحة.
*إضاءة
نالت الخطاطة ثريا سيد إجازة الخط العربي من منظمة أرسيكا إسطنبول ٢٠٠٥، وهي حاصلة على شهادة الماجستير في الفنون التقليدية من كلية الأمير تشالز للفنون التقليدية، وحاصلة على بكالوريوس في اللغة العربية وتاريخ الفن والآثار من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية- جامعة لندن، وشهادة في فن التصميم من كلية سنترال سانت مارتنيز، تدربت على يد الدكتورة ڤينيسا بورتر، المتحف البريطاني، وتعمل في شركة ( فن القلم) وتدير شركة تصميم جرافيكي في لندن، حاصلة على العديد من الجوائز الفنية والمنح من مؤسسات تعنى بالفنون.