مفاهيم تغيرت دلالاتها | جميل مطر

مفاهيم تغيرت دلالاتها | جميل مطر

جميل مطر

أتذكر أياماً لم نختلف فيها حول معاني المفاهيم. كنا سذجاً أم كنا نعيش في عالم بمعالم واضحة خطوطه مستقرة والنوايا فيه ثابتة.

الاستعمار مثلاً، جاءت فترة كانت المؤتمرات الدولية الأهم تعقد تحت اسمه. لم تخجل الدول الأوروبية من أن توصف بكونها استعمارية ولم يخف ممثلوها من العسكر والمدنيين نواياهم عصر إمكانات وثروات الدول الضعيفة حتى آخر قطرة. ثم جاءت فترة انتفضت شعوب، شعب تلو شعب، لتخرج من تحت عباءته. كانت الانتفاضات مكلفة في الأرواح كما في الممتلكات، لكنها كانت كافية لتنهي مرحلة الاستعمار.

شهدنا على دول كانت ذات يوم رائدة في فلك الاستعمار راحت بكل شجاعة ووقار تخلع عن اسمها لقب «العظمى». بريطانيا في مطلع هذه المرحلة لم تعد تخاطب الدول الأخرى تحت صفة «العظمى»، لكنها لم تتخل تماماً عن بعض أساليب الاستعمار الأول. انحدرت المكانة، لكن بذكاء خارق استطاعت قيادتها أن تحل بروحها وخبرتها في جسد «المستعمرة الأمريكية» لتصير، وصارت، خير خلف لإمبراطورية لم تغب عنها الشمس إلا يوم أفولها.

كثير من أبناء جيلي تأملوا طويلاً، وببعض الدهشة، المقابلة التي جرت وقائعها أمام جمهرة الصحفيين بين الرئيس الأمريكي القادم لتوه من آثار تجربة في الحكم لم تكتمل وبين رئيس دولة أوكرانيا الضحية النموذجية لكل ما دخل من تغيير على تطبيقات مفهوم الاستعمار. نعرف، أو قل علمونا في جامعاتهم، أن حلف الأطلسي أقيم لأهداف بينها هدف حماية ما تبقى لدول أوروبا الاستعمارية من نفوذ وممتلكات ومستعمرات بعد حرب أنهكت دولاً كثيرة في أوروبا وأنعشت الولايات المتحدة. للمرة الثانية في أقل من ثلاثين عاماً تخرج الولايات المتحدة من حرب عالمية منتصرة. في هذه المرة الأخيرة لم تتردد الولايات المتحدة في أن تتولى قيادة التيار الغالب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تيار «تصفية الاستعمار»، في شكله القديم، أي المباشر والقائم أحياناً على الاحتلال العسكري. ولكن، ومن دون الإعلان أي من دون التصريح به، كان يهدف إلى حماية أنواع جديدة من «الاستعمار» سواء بالتدخل الأمريكي المباشر أو بأدوات وآليات حلف الأطلسي.

المثال الأبرز هو ما كشفت عنه، وبجرأة أو تهور لم نشهد مثيلاً له منذ بدأنا نتابع الانسحاب التدريجي للاستعمار بصوره التقليدية، المقابلة الأشهر في تاريخ «دبلوماسية الاستعمار الجديد»، أقصد المقابلة بين زيلنسكي رئيس أوكرانيا وترامب الرئيس الأمريكي في مكتبه البيضاوي وأمام الصحفيين المعتمدين لدى البيت الأبيض. كانت درساً تلقفه بالعناية اللازمة والقلق الشديد والإنكار العظيم زعماء عديدون في عالم الدول الناشئة، وبخاصة الدول الزاخرة أراضيها أو بحارها بالمعادن النادرة ومقومات الطاقة المستجدة.

عشنا خلال المقابلة، مع ملايين المشاهدين من كافة أنحاء العالم المستفيد من الشبكة الإلكترونية، دقائق غير مسبوقة من متابعة بالصوت والصورة أقصى درجات الضغط في مقابلة دبلوماسية بين طرفين غير متقاربين في القوة والنفوذ، بل تفرق بينهما جميع حسابات ومعايير القوة المتعارف عليها في العلاقات الدولية. بمعنى آخر كنا شهوداً، بل وكنا أيضاً بصفتنا ممثلي دول وشعوب من عالم الجنوب مشاريع ضحايا أو أطراف محتملة في عملية استعمارية تقليدية صارخة ومكشوفة وصريحة «ومتوحشة» الأسلوب إن صح التعبير.

كانت «المقاومة» الضحية الثانية في عمليات تغيير المفاهيم. كنا في شبابنا نغني لها أحلى الأناشيد. تعرفت إليها في دورة تدريب جرى تنظيمها في الأرض الفضاء الفاصلة بين كليتي التجارة ودار العلوم على ما أذكر. كان الانضمام للمقاومة شرفاً لا يعادله فخر أو شرف آخر في وعي مراهق أو شاب دخل للتو مرحلة النضج. أظن أننا نضجنا في جو صحي شاركت في صنعه المقاومة المسلحة ضد المستعمر الإنجليزي. تذوقنا متعة حمل السلاح لحماية وطن محتل، ويا لها من متعة!

هناك في غزة، وكنا في رحلة كشفية، أقمنا معسكرنا في باحة مدرسة. ذات يوم خرجت مبكراً بمفردي متوجهاً نحو مخيم الشاطئ. مشيت في شوارعه وأزقته أبحث عن شاب حملت له رسالة من قريبة له في القاهرة. وجدته اصطحبني في المشي، اخترنا مكاناً قصياً لنتحادث. هناك فهمت مجدداً معنى أن تبدأ حياتك الواعية مقاوماً.

حدث كل هذا في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، كانت المقاومة المصرية تعمل في منطقة القناة ضد معسكرات وأفراد الجيش الإنجليزي وكانت المقاومة الفلسطينية تعمل ضد مستوطنات إسرائيل، وكانت المقاومة الجزائرية محل إعجاب كل العرب من دون استثناء وشعوب الدول حديثة الاستقلال. وقتها سجلت المقاومة سطوراً من النور تحكي بطولاتها وفضلها على شعوبها، سجلت أيضاً في تلك السطور فضل شعوبها ودعمها لها.

تغير المقصود بمفهوم الاستعمار وتغير المقصود بمفهوم المقاومة، تغير محتوى المفهومين ومفاهيم أخرى في ظاهرة تستحق الاهتمام بالتسجيل والتنبيه. نحن في أشد الحاجة إلى كتابات تتابع التغيرات التي أصابت، أو استجدت على، محتوى مفاهيم من نوع المطورين والمحرقة واليهودية والمسيحية الصهيونية والوسطاء أو الوساطة في عصر الاستعمار، والدبلوماسية في زمن الفوضى، ومحتوى مفاهيم من نوع العروبة والشرق أوسطية الجديدة والأنهار الدولية والقانون الدولي وإسرائيل الكبرى والإقليمية الجديدة ومستقبل المواجهة الناشبة بين مفهومي السايكس بيكوية والترامبوية في الشرق الأوسط على ضوء ما تغير، وما أكثره.