الإمارات والدبلوماسية الإنسانية | صلاح الغول

د. صلاح الغول
انشغل الفلاسفة والمفكرون منذ القدم وحتى وقتنا الراهن بمسألة البُعد الأخلاقي للسياسة، وقدموا طروحات متباينة عنها. ولا مشاحة في ذلك، فمسألة دور القيم في السياسة خلافية بصفة أساسية. فمنهم مَن نزع أي بعد أخلاقي عن سياسات الدول، ولا سيما الخارجية منها، على أساس أن المصلحة الوطنية هي محرك هذه السياسات. وهنا يقفز إلى الذهن ماكيافيللي وهوبز وبنتام. ومنهم من أكّد أهمية أخذ الاعتبارات والقيم الأخلاقية أو المعيارية عند تخطيط هذه السياسات وتنفيذها. وهنا تتوارد إلى الذهن أسماء أفلاطون والفارابي والماوردي وجون لوك وغيرهم.
ومن جهتي، لا أجد تناقضاً في أن تسعى الدول إلى تحقيق مصالحها الوطنية وصيانة أمنها القومي، وبين أن تستند سياستها الخارجية إلى بعض القيم الأخلاقية أو المعيارية الموجهة، مثل العدل والمساواة والحرية والتسامح والأخوة الإنسانية.
والواقع أن استناد السياسة الخارجية للدولة، أي دولة، إلى قيمة/ قيم أخلاقية أو معيارية، أو تزعّمها نشر قيمة/ قيم معينة، يرفدها بمزيد من القوة الناعمة، التي تساعدها، بدورها، في تحقيق مصالحها الوطنية. وثمة من يؤكد بالأدلة الواقعية أن القوة الناعمة هي أكثر فاعلية في تحقيق أهداف الدولة الخارجية.
وتمدنا التجربة الإماراتية في الحُكم والسياسة بما يدعم وجهة النظر الوسطية تلك. بادئ ذي بدء، تتضمن وثيقة مبادئ الخمسين، الصادرة في سبتمبر/ أيلول 2021، وهي المرجع لجميع مؤسسات الدولة خلال الخمسين عاماً المقبلة، تأصيلاً لمنظومة القيم التي تستند إليها سياسة الدولة، وأهمها التسامح، وحفظ الحقوق، وترسيخ دولة العدالة، وحفظ الكرامة البشرية، واحترام الثقافات، وترسيخ الأخوّة الإنسانية، والتعايش السلمي، والوسطية ومكافحة التطرف.
وهذه القيم تُشكل، بحق، الأساس القيمي للسياسة الخارجية الإماراتية، أي القيم التي توجه السياسة الخارجية للدولة، والتي تلتزم بها دبلوماسيتها ودبلوماسيوها، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وشيخ الدبلوماسية الإماراتية سمو الشيخ عبدالله بن زايد نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية.
ثمة ثلاث قيم تشكل معالم ما يمكن وصفه بالدبلوماسية الأخلاقية للدولة، وهي الكرم والعطاء، والتسامح، والأخوة الإنسانية. وإن كان ذلك لا ينفي أن دولة الإمارات، كونها دولة متوسطة، تزاوج في سياستها الخارجية بين القيم والمصالح الوطنية من ناحية وضرورات البراغماتية من ناحية أخرى، كما بينت ذلك المبادئ الثمانية لسياستها الخارجية، والتي كشف عنها المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة الدكتور أنور قرقاش في نوفمبر 2022، والتي أشرتُ إليها في أكثر من مناسبة على صفحات «الخليج».
بادئ ذي بدء، يرفد الكرم والعطاء الدبلوماسية الإنسانية لدولة الإمارات، وهي بعد أصيل في السياسة الخارجية للدولة التي أصبحت من أكثر دول العالم إسهاماً في المساعدات الإنسانية بالنسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي. والحقيقة أن بلورة هذا النموذج من الكرم والعطاء في صورة دبلوماسية إنسانية رائدة أسهمت في تنامي التأثير الدولي لدولة الإمارات.
ويستند الكرم والعطاء في النموذج الإماراتي إلى فلسفة إنسانية، تجمع بين التقاليد القبلية الأصيلة التي تنظر إلى الكرم والعطاء على أنهما عنوانان للشرف القَبلي، ومقومات الحضارة العربية الإسلامية التي أعْلت من قيم الخيرية والعطاء والإيثار. كما يستند الكرم والعطاء إلى تراث الآباء الأوائل، وعلى رأسهم الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه.
يمثل التسامح قيمة رئيسية في دولة الإمارات العربية المتحدة ونموذجها التنموي المزدهر، حتى غدت تجربةً رائدة في التسامح. فلا يكاد يخلو حديث عن معالم التجربة التنموية في دولة الإمارات في العقود الخمسة الماضية، التي يُطلق عليها «معجزة الصحراء»، من الإشارة إلى ما يتمتع به مجتمعها المتنوع ثقافياً من تسامح بين جميع القاطنين على أرضها، على الرغم من انتمائهم إلى أكثر من مئتي جنسية ومائة ونيف قومية. والتسامح -في صورته الإماراتية- قيمة مُظِلَّة ترتبط بجملة من القيم الأخرى، وفي مقدمتها الاعتدال والتعايش السلمي والتنوع الثقافي والانفتاح الحضاري. وقد عمدت دولة الإمارات إلى مأسسة التسامح، عن طريق تشريعات داعمة، وسياسات وقرارات واضحة، ومؤسسات متخصّصة تتمركز حول وزارة التسامح والتعايش. وقد جعلت دولة الإمارات من التسامح أساساً في سياستها الخارجية إزاء الدائرة الدولية، حيث تدعو إلى بناء أسس الحوار والتعايش بين الحضارات والثقافات والأديان والشعوب المختلفة على قاعدة التسامح والانفتاح، بعيداً عن نزعات الصدام، والتطرف، والتعصب، والعنف. بل إنها تتزعم مكافحة الكراهية والتطرف والإرهاب في سياستها الداخلية والخارجية.
ومنذ توقيع وثيقة الأخُوَّة الإنسانية مطلع عام 2020، في العاصمة أبوظبي، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع كمرجع عالمي في التسامح والعيش المشترك، لا سيما بعد اعتماد يوم توقيعها (4 فبراير) من قبل الأمم المتحدة يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية، أقول: منذ توقيع هذه الوثيقة التاريخية أصبحت هذه القيمة الأخلاقية الكبرى موجّهاً أساسياً للسياسة الخارجية الإماراتية، التي أخذت على عاتقها الترويج لها ونشرها في الداخل والخارج. وتهدف الوثيقة إلى ترسيخ مبادئ الحوار بين الأديان، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، ومحاربة التطرف والكراهية، والعمل على تحقيق التعايش بين الشعوب.
وهكذا، تقدم الخبرة الإماراتية في السياسة والحُكم تجربة غنية تُسهم في إثراء النقاش حول مسألة الدبلوماسية الأخلاقية أو القيمية.
[email protected]