في يوم العيد.. ليكن الاقتصاد المزدهر مصدر سعادتنا | جابر محمد الشعيبي

في يوم العيد.. ليكن الاقتصاد المزدهر مصدر سعادتنا | جابر محمد الشعيبي

جابر محمد الشعيبي*

في زمن تتسارع فيه الحياة وتتزايد فيه الضغوط وتتعدد فيه التحديات اليومية، أصبحت الراحة النفسية من أندر أشكال الرفاه التي لا ندرك قيمتها إلا حين نفتقدها. ومع حلول عيد الأضحى المبارك، وما يحمله من قيم روحية وإنسانية، نحتاج إلى لحظة تأمل جماعية وذاتية نسأل فيها أنفسنا: هل نعيش العيد بقلوب مطمئنة؟ وهل نعكس ازدهار حياتنا المادية في سكينة داخلية حقيقية؟ أم أن الإنجاز والتوسع والاحتفال باتت صوراً خارجية تغطي تعباً لا نراه؟
لطالما ارتبط العيد بالفرح والبهجة واللقاء، لكنه بالنسبة لكثيرين بات مرادفاً للاستنزاف. بين الاستعدادات المتكررة والالتزامات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية، تحوّل العيد في بعض البيئات من مناسبة للتجدد إلى عبء جديد. هنا تبرز الحاجة لإعادة المعنى، لا بإلغاء الطقوس بل بإحيائها من الداخل. أن يكون العيد لحظة راحة لا واجباً، وأن يكون الفرح شعوراً حقيقياً لا مشهداً مكرراً.
حين ننظر إلى الفلسفة الأعمق للاقتصاد، نجد أن غايته ليست تراكم الثروة بل تحسين الحياة. النمو لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بما يُحدثه من أثر على النفس والمجتمع. السعادة النفسية ليست ثمرة ثانوية للاقتصاد، بل مقياس فعلي لنجاحه. ولذلك فإن أي اقتصاد لا يعيد الإنسان إلى مركز الاهتمام ولا يجعل راحته النفسية أولوية، هو اقتصاد لا يزال ناقصاً مهما بدت مؤشراته صاعدة.
وفقاً لتقرير السعادة العالمي 2024 الصادر عن الأمم المتحدة، احتلت الإمارات المرتبة ال 22 عالمياً والأولى عربياً في مؤشر السعادة، متقدمة على العديد من الدول ذات الناتج المحلي المرتفع. ويعتمد التقرير على مؤشرات مثل الدعم الاجتماعي، متوسط العمر المتوقع بصحة جيدة، الحرية في اتخاذ القرارات، ومستوى القلق اليومي. هذا الإنجاز يعكس فهماً عميقاً بأن الرفاه لا يُقاس فقط بالدخل، بل بالراحة النفسية وجودة الحياة.
الإمارات أدركت هذا المبدأ منذ وقت مبكر، فربطت بين التنمية والسعادة، وبين الازدهار وجودة الحياة. لم تكتف بتوسيع البنية التحتية أو تحفيز الأسواق، بل أطلقت مبادرات مثل وزارة السعادة، واستحدثت سياسات وطنية للصحة النفسية، واعتبرت التوازن النفسي جزءاً أصيلاً من مستقبل الإنسان في هذه الأرض. مبادرات مثل 800-HOPE للدعم النفسي المجاني، والإرشاد النفسي في المدارس والجامعات، والاهتمام براحة الموظف داخل بيئة العمل، كل ذلك ليس مجرد خدمات، بل رؤية متكاملة تجعل من الإنسان مركز الاهتمام.
في يوم العيد، نحتاج إلى العودة إلى هذا المعنى العميق للازدهار. لا يكفي أن نملك القدرة على الشراء أو التزين أو المشاركة، ما لم نشعر بالطمأنينة في دواخلنا. الهدية الحقيقية في العيد ليست ما نقدمه للآخرين فقط، بل ما نقدمه لأنفسنا من وقت وسكينة وتسامح. الجلوس مع النفس بصدق هو فعل من أفعال الراحة، والراحة النفسية في زمننا هذا أصبحت شجاعة.
المجتمع بدوره يلعب دوراً أساسياً في دعم الصحة النفسية. الكلمات الطيبة، الحضور الصادق، السؤال الحقيقي عن الحال، كلها عناصر تصنع فرقاً لا يُرى لكنه يُشعَر به. الأسرة التي تمنح أبناءها أماناً عاطفياً، والعمل الذي يحترم الإنسان ككل لا كرقم، والمدرسة التي تُنصت لمشاعر طلابها، كلها مكونات لاقتصاد أكثر إنسانية.
العيد فرصة لإعادة بناء هذه القيم. أن نقلل من الضجيج، أن نُبطئ الإيقاع قليلاً، أن نسمح لأنفسنا بالهدوء. أن نفكر في معنى «النجاح» من جديد، لا كسباق لا يتوقف، بل كرحلة متوازنة فيها مساحة للراحة. وإذا كان البعض يرى في الراحة النفسية ضعفاً، فإننا اليوم نكتشف أنها صمام الأمان الحقيقي لكل فرد وأسرة ومجتمع.
أن نعيش العيد براحة لا يعني تجاهل الآخرين، بل العكس، أن نكون أقدر على مشاركتهم مشاعرنا الحقيقية. أن نستمتع بلحظة العطاء من دون أن نخفي تعبنا. أن نتبادل التهاني من دون أن نُكلف أنفسنا فوق طاقتها. أن نعانق الحياة دون أن نُرهق الروح.
في يوم العيد، لنجعل من اقتصادنا المزدهر منصةً لبناء راحة نفسية جماعية. لنجعل من الوفرة المالية وسيلة لتوسيع خيارات السعادة الداخلية، لا مجرد امتلاك المزيد. لنجعل من هذا اليوم الفضيل بداية جديدة، نُعيد فيها التوازن إلى داخلنا، وننظر فيها إلى الإنجاز على أنه حياة تُعاش لا رقم يُسجل فقط.
السعادة النفسية ليست ترفاً، بل استثمار طويل الأمد في إنسان قادر على أن يُنتج ويُحب ويشارك ويبني. وإذا كنا نحتفي في العيد بالأضحية والتكبير والتلاقي، فلنحتفِ أيضاً براحة القلب وهدوء البال وصدق المشاعر، فهي أثمن من كل ما يُشترى.

* كاتب وباحث

[email protected]