عصفورة الحزن | صحيفة الخليج
ذات مشوار صباحي باكر، أقود سيارتي وأستمع إلى الفقرة الغنائية الصباحية لفيروز، فأسمعها تؤدي: «واغتراب بي وبي فرحٌ/ كارتحال البحر بالسفن/ أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ/ أنا عيناك هما سكني». ناجيتُ نفسي: يا لهذا الجمع البليغ بين الاغتراب والفرح. المقطع أعلاه أتى، كما تعلمون، في أغنية «عصفورة الشجن»، وأثارت تلك اللحظة الفيروزية الصباحية في نفسي الفضول لتقصي اسم كاتب هذه الكلمات الجميلة.
في البيت شرعتُ في البحث، فوجدت أن الكلمات، خاصة على موقع «يوتيوب»، تنسب إلى الأخوين رحباني، لكن شكاً كبيراً راودني في أن يكون منصور أو عاصي هما من كتباها. «ليست لغتهما»، قلتُ لنفسي. لم يخب ظني، فببحثٍ إضافي وجدتُ أنها تنسب إلى شاعر من مدينة النبطية في جنوب لبنان اسمه علي بدر الدين، نشأ في عائلة شديدة التدين، بل إنه نفسه أصبح، لاحقاً، رجل دين، وكتب كلمات الأغنية عندما كان شاباً دون العشرين من عمره، ما ينمّ عن موهبة شعرية لافتة.
لم يعلن الرجل للملأ أبداً أنه من كتب القصيدة، تفادياً لأي إحراج قد يسببه لعائلته ولمكانته كرجل دين، فلم يشأ أن يقال عنه إنه كتب شعراً في الغزل، وبقيت القصيدة وقصائد أخرى له مجهولة القائل، حتى أسرّ أحدهم لعاصي الرحباني بأمرها، وبعد أن قرأ بعضها، خاصة قصيدة «عصفورة الشجن»، قصده طالباً موافقته على تلحينها لتغنيها فيروز. وافق الشاعر على ذلك بعد وعدٍ قطعه عاصي له بعدم ذكر اسمه.
الشجن، لغةّ: «الهمّ» و«الحزن»، و«حالة شعورية متنامية في النفس، تُحدث شيئًا من تجاذبات وتداعيات للمشاعر»، ولكن المفردة وردت في هذه القصيدة المغناة جامعة بين الحزن والحنين إلى ما كان جميلاً، تعبيراً عن اغتراب وجودي بالمعنى الفلسفي، وحسب الموسيقيين فإن العود والناي هما أبرز آلتين موسيقيتين تعبران عن الشجن، وأنّ من أشهر روّاد العزف شجناً: فريد الأطرش، رياض السنباطي، سيد مكاوي، محمد عبد الوهاب، طلال مداح وسواهم. ومن أبلغ ما قيل شعراً عن الشجن قول بشار بن برد: «لا تعرف النوم من شوقٍ إلى شجن/ كأنما لا ترى الناس أشجانا»، وقول الباخرزي: «أروحُ وفي الحَلْقِ منِّي شَجىً/ وأغدو وفي القلبِ مني شجن».
بقي القول إن «عصفورة الشجن» لم تكن الوحيدة من شعر علي بدر الدين التي لحنها الأخوان رحباني، مثلها لحنا أيضاً قصيدته القائل مطلعها: «لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب/ ورحت أحضنها بالخافق التعب».
كاتب هذا الشعر الرقيق مات موتة فاجعة عن ثلاثين عاماً فقط، في ذروة الحرب الأهلية بلبنان، حيث وجد جثة مزّقها الرصاص في أحد أودية الجنوب عام 1980، بعد اختطافه ذات صباح وهو في طريقه إلى المسجد.
[email protected]