ذكريات الحنين في ذهنك | شيماء المرزوقي

ذكريات الحنين في ذهنك | شيماء المرزوقي

قد يصيبك الحنين إلى زمن لم تكن فيه، أو تشعر بانجذاب غريب إلى أماكن لم تزرها قط، أو ترتبط عاطفياً بموسيقى، أو صور، أو طرز معمارية لا تمت لحياتك الحالية بصلة. تسمي هذا شعوراً جميلاً، لكنه غامض، يلامس القلب دون تفسير واضح. فكيف نشتاق إلى ما لم نعشه؟ ولماذا تبدو بعض العوالم البعيدة مألوفة جدًا لنا؟
هذا الشعور يعرف في علم النفس باسم «النوستالجيا العابرة للزمن»، وهو الحنين إلى زمن لم يختبره الشخص فعليًا. ورغم أن «الحنين» غالبًا ما يربط بالذكريات الشخصية، إلا أن البشر قادرون على اختلاق مشاعر عميقة تجاه تصورات تاريخية أو ثقافية لم يعيشوها بأنفسهم. هذا النوع من الحنين لا يعتبر وهماً، بل هو استجابة طبيعية لطبيعة الإنسان التي تبحث عن الانتماء والطمأنينة.
في دراسة تم نشرها في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي، وهي مجلة علمية تنشر أبحاثاً في مجال علم النفس الاجتماعي، وتركز على السلوك الاجتماعي، نشرت دراسة بعنوان: «النوستالجيا: مستودع لمعنى الحياة». وجد الباحثون أن النوستالجيا – سواء تجاه تجارب شخصية أو رموز زمنية غير معيشة – تلعب دوراً كبيراً في دعم الإحساس بالهوية، وتقوية المعنى في الحياة، وخفض مشاعر الوحدة. فالعقل لا يفرق تمامًا بين الذكريات الحقيقية والمتخيلة من حيث الأثر العاطفي، خاصة إذا كانت تلك التصورات تحمل رموزاً للبساطة، أو الدفء، أو التواصل الإنساني، وهي كلها أشياء نبحث عنها بالفطرة.
الأمر يتضخم في هذا العصر السريع الذي نعيشه.. حيث تتغير التكنولوجيا، وأنماط الحياة، وسرعة التواصل. في وسط هذا التغير، ينجذب الكثيرون نحو الصور المثالية لعصور سابقة: رسائل مكتوبة بخط اليد، منازل ذات نوافذ خشبية، أسواق تقليدية، ملابس بسيطة.. حتى لو لم يعيشوها فعليًا، لا لأن الماضي كان بالضرورة أفضل، بل لأنه يبدو «أهدأ»، وربما «أكثر إحساساً بالإنسانية».
لكن علينا الحذر من أن يتحول هذا الحنين إلى تعلق مثالي يعرقل علاقتنا بالواقع. فكما أن الماضي لم يكن مثاليًا تمامًا، فإن الحاضر يحمل أيضًا لحظات تستحق الانتباه. المهم هو أن نفهم أن هذا الشعور ليس ضعفًا أو هروبًا، بل هو تعبير عن حاجة داخلية للتواصل، للمعنى، للانتماء إلى شيء يبدو أعمق من يومياتنا المزدحمة.
يمكننا أن نحول هذا الحنين إلى مصدر للإلهام بدلًا من التعلّق. فبدل أن نقول «ليتني كنت هناك»، يمكننا أن نسأل «كيف أجلب بعضًا من هذا الشعور إلى حياتي الآن؟» ربما بخطاب مكتوب يدويًا، أو بنزهة بدون هاتف.. أو بإحياء عادة قديمة تحمل شيئًا من البساطة.
الحنين لأزمنة لم نعرفها ليس شيئًا غريبًا.. إنه أحد الطرق التي يخبرنا بها عقلنا أن في داخلنا فراغًا صغيرًا يبحث عن شعور مألوف، ولو من خلال صورة قديمة أو أغنية بعيدة.

[email protected]

www.shaimaalmarzooqi.com