حتمية البطل | يحيى زكي

حتمية البطل | يحيى زكي

يحيى زكي

تحتاج أي ثقافة إلى فكرة البطل، فهذه الفكرة لا تتعلق بفروع الأدب المختلفة وحسب، ولكنها ضرورة لصحة المجتمع وعافيته، تعكس تقاليده وقيمه وتمثل قيمة كبرى لأفراده. صحيح أنها تتجلى بالدرجة الأولى في الآداب والفنون ولكن تأثيرها يتجاوز هذين الحقلين.
إن أبطال فكتور هوغو وتشارلز ديكنز، على سبيل المثال لم يكونوا مجرد شخصيات روائية، وإنما عبّروا عن عصر بأكمله، ف«جان فالجان» بطل «بؤساء» هوغو صوّر لنا حياة الفقراء والمهمشين في فرنسا في القرن التاسع عشر، وعبر أعمال ديكنز تعرفنا إلى تغول الرأسمالية في بريطانيا في القرن نفسه، وإذا صعدنا قدماً في التاريخ سنجد أبطال دستويفسكي وأزماتهم الروحية والاجتماعية.
وحتى البطل الضد، أو البطل الذي ننقده أو نعتقد أنه يقدم صورة كاذبة للواقع أو مضخمة له، مثل الأبطال الأمريكيين، فأنهم في النهاية نبت المجتمع يعبّرون عن أفكاره وآماله وطموحاته، وسنلاحظ أن كثيراً من أبطال «الكوميكس» الأمريكيين الخارقين تمت صناعتهم خلال الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينات القرن الماضي، وذلك بحثاً عن منقذ من الأزمة ومخلص لمجتمع على شفا الانحطاط.
الشيء نفسه تكرر في الأدب العربي، فلم يكن البطل ضرورة فنية للإمتاع، ولكنه كان يجيب عن أسئلة ويلبي احتياجات ثقافية وفكرية ومجتمعية، فأسئلة الهوية التي أثارها لقاء الشرق والغرب، وسادت حياتنا الفكرية خلال النصف الأول من القرن الماضي نجدها في «أديب» طه حسين، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، كانوا أبطالاً من صناعة الذهن اختبروا مسألة علاقة الشرق والغرب وقاربوا أسئلة ملحة نتجت عن لقائنا الحضاري بالآخر.
مع انتشار الأيديولوجيا خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين نشأ بطل جديد يعبّر عن مجتمع يمر بمرحلة مختلفة، مرحلة الوعي الجمعي، فكانت أزمة البطل هي كيف يعيش هذا الوعي مع الاحتفاظ بفرديته.
بجوار هذا البطل المثقف، كان هناك وحتى عقود قليلة ماضية البطل الشعبي، الذي عبّر عن وجدان البسطاء، وتوارثوا حكاياته جيلاً بعد جيل، كان أيضاً يعبّر عن آمالهم وأحلامهم ويمتلك قدرات بإمكانها أن تحل مشاكلهم وتذلل العقبات التي تعترض طريقهم.
إذا تأملنا فكرة البطولة نفسها فسنجدها ضرورية للسلام النفسي بل الاجتماعي القيمي، صاحبت الإنسان من قدماء الأبطال في الحضارات القديمة، عكست تقلبات المجتمع وصورت مشاكله بأمانة وطرحت حلولاً لها، ونشأ بجوار هذه الفكرة المتخيلة، فكرة رديفة أخرى واقعية وتمثلت في قدرة المجتمع على صناعة الرمز، ومن الفكرتين معاً كان هناك ما يسمى بالمعيارية، أي قياس ما يستجد على حياتنا من أفكار وقيم جديدة على معايير معروفة تجعلنا نميز بين الغث والسمين والنافع والضار، وما نحتاجه وما يعد من الكماليات أو الذي لا ضرورة له.
تكشف فكرة البطولة أيضاً عن توازن صحي بين الفرد والمجتمع، وفي عصر التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل تكاد فكرة البطولة تختفي، ومعها يتراجع كل هذا الزخم وفي مقدمته سلامنا النفسي.