«الثلث الجلي».. الخط الذي يمثل الهدوء والسكينة

«الثلث الجلي».. الخط الذي يمثل الهدوء والسكينة

الشارقة: رضا السميحيين

في مشهدية الحرف العربي، ثمة ما هو أعمق من الخط وأبعد من التكوين الفني، مشهدية تتجاوز الزخرفة لتصل إلى مكامن الطمأنينة الروحانية، فالخط العربي، حين يكتب بإيمان متجذر، ويرسم بيد فنان، يتجاوز وظيفته التعبيرية، ويتحول إلى مرآة للروح، وصدى بصري لرجع القلب.
هذا البعد الجمالي والبصري الذي يمنحه الخط العربي، يتجلى في تكويناته، وتراكيبه وزخارفه، وبنيته الإيقاعية التي تشكل وحدة منظمة، ترتكز على قيم ثابتة تستلهم قوتها ومرجعياتها من الفلسفة العربية الإسلامية.
تتجلى أمامنا لوحة الخطاط العماني سامي الغاوي، التي سطر فيها بمداد الثلث الجلي آية قرآنية من أبلغ آيات الطمأنينة، «ولا هم يحزنون»، والتي تجسد وعداً إلهياً خالصاً للمؤمنين بالسكينة والسلام، وتغرس في الوجدان الطمأنينة في مواجهة الحزن والقلق، في استدعاء لمستوى أعلى من التأمل، يتحول فيه الحرف إلى طقس بصري للأمان والتسليم لله وحده.
ويعتبر خط «الثلث الجلي»، أحد أعقد وأجمل الخطوط العربية، وأكثرها قدرة على الاحتواء والامتداد والتراكب الحروفي، وقد تعامل معه الخطاط بحس متمرس وفهم عميق، فجاءت الأحرف متوازنة في انحناءاتها، متقنة في تلاحمها، تنساب بسلاسة مدهشة في فضاء اللوحة الفني.

*تكوين

التكوين البيضوي المتناظر الذي يشكل البنية البصرية للوحة، تتنزل فيه الحروف من الأعلى إلى الأسفل بانسيابية مدروسة كأنها قطرات نور تتساقط من السماء، في حركة رمزية تعبر عن المعنى العميق للآية والمضمون الإيماني، الذي يشير إلى تنزيل الله عز وجل للسكينة على عباده المؤمنين، فكل حرف يهبط من الأعلى بهدوء مهيب، ويستقر في مكانه كما تستقر النفوس عند سماع الوعد الإلهي، ويمكننا أن نلمس هذا الأثر تحديداً في الحروف الوسطى، حيث تتحرك خطوطها نحو الأسفل وتشكل محوراً بصرياً يبث الطمأنينة، يتوسط اللوحة بثقة وجلال، مع تكرار للكتلة الحروفية في الجانبين، ضمن تناظر دقيق يشبه الانعكاس في مرآة، مما يمنح العين راحة واستقراراً، وعبر الفنان بهذا التكوين عن قدرة على الجمع بين الانضباط البصري وجماليات تقاطع الحروف وتداخلها بطريقة جعلت منها وحدة زخرفية كاملة.
ومن التجليات الفنية التي يمكن ملاحظتها في اللوحة، هو تقاطع الحروف وتداخلها بطريقة تجعل من الآية الكريمة وحدة زخرفية كاملة، فـ«الواو» في البداية تنطلق مثل كفوف الدعاة، تتبعها «لام» طويلة تمتد مثل نفس عميق، ثم تأتي بقية الحروف لتنسج بينها انحناءات رخيمة تنتهي بـ«يحزنون» التي تتقوس كأنها احتضان بصري للمعنى، في ختام يشبه وعد الطمأنينة.
وتبرز في اللوحة أيضاً، جماليات نقاط الحروف والتشكيل اللغوي، التي جاءت كعناصر تزيينية بقدر ما هي عناصر بنيوية، جعلها الخطاط، جزءاً من الحركة الهندسية العامة للنص، تتموضع في أماكن توحي بالحياة والحركة في توازن بصري محكم.

*تباين

العناصر الزخرفية المحيطة بالنص في هذه اللوحة تشكل إطاراً نباتياً غنياً، استلهمه الفنان من روح الزخارف الإسلامية الكلاسيكية، وخاصة تلك التي نجدها في المخطوطات، هذه الزهور المتكررة بأوراقها الممشوقة وميلها الرقيق، لا تطغى على النص، بل تكمله وتحيطه بهالة من النور الزخرفي، مما يضاعف من تأثير النص في المتلقي.
جاء اللون في اللوحة ليبرز التباين القوي بين الحبر الأسود والخلفية ذات اللون العاجي الفاتح، مما يمنح الحروف حضوراً درامياً لافتاً من دون أن تفقد روحها التأملية، تستدعي المتأمل إلى صمت داخلي، يتماهى مع عمق الآية الكريمة، في تجربة تأملية تستدعي الحواس وتعيد ترتيبها على إيقاع الجمال العربي الأصيل، وفيها تتجلّى قدرة الخط العربي على أن يكون وعاء للروح، ومجالاً فنياً لتصوير العاطفة البشرية.

*إضاءة

عشق الخطاط سامي الغاوي فن الخط العربي منذ نعومة أظفاره، حيث كان قد بدأ عشقه للفن بالرسم وخاصة الرسم الواقعي وللخط العربي في مراحله المدرسية الأولى، سافر إلى إسطنبول في العام 1992م حيث التقى بأستاذه الأول في الخط الشيخ حسن جلبي وتعلم على يديه أساسيات هذا الفن، ثم سافر للمرة الثانية إلى إسطنبول عام 1998م والتقى بأستاذه الثاني محمد أوزجاي حيث تعلم على يديه إضافة إلى الأساسيات، براية القلم وتحضير الأحبار وتقهير (صقل) الورق، ولا يزال يأخذ عن أوزجاي كل ما يتعلق بفن الخط العربي، شارك في العديد من المعارض سواء داخل سلطنة عمان أو خارجها، كما شارك في العديد من المسابقات الداخلية والخارجية وحاز العديد من الجوائز الأولى والذهبية والتقديرية.