«غرائب الخيل».. لحظة من الاستخفاف بالتقاليد القديمة

الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
يعبر الأدب السردي عن الواقع بطرق مختلفة، يسافر بأجنحة الخيال نحو تواريخ بعيدة، يهتدي بالحكايات القديمة والأساطير من أجل أن يمارس فعل الإسقاط ليعبر عن اللحظة الحالية والمستقبل، فكل ما هو راهن يجد تفسيره في التاريخ. رواية «وبر الأحصنة»، للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان، الصادرة في طبعتها الجديدة المزيدة المنقحة عن دار روايات، تعبر عن ذلك الشغف بتفسير الواقع بالتاريخ.
تبحث الرواية عن كيف ترسخت العادات والتقاليد والظواهر المختلفة في جسد المجتمع فصارت قانوناً وسلطة تلقي بظلالها الكثيفة على الأفراد وبصورة أخص على المرأة التي هي ضحية البالي من التصورات والعادات التي تعلي من شأن الذكر وتجعل النساء في مرتبة أدنى من السلم الاجتماعي، لكن الرواية لا تعتقل نفسها في ذلك الشأن فقط، بل تقدم تطوافاً بديعاً وعميقاً حول عدد من القضايا برافعة فلسفية، من خلال تتبع حكاية عائلة خلال فترة طويلة من التاريخ الليبي، بدءاً من حقبة الأحداث التي وقعت في عام 2011، وصولاً إلى الواقع الراهن، حيث تركز على حياة الأب الذي يمتلك مصنعاً، وتتناول قصة العائلة والمنعطفات التي تمر بها خاصة الابنة عائشة.
* سخرية
تطل الرواية على الواقع الليبي بكل تشابكاته وتداخلاته والقوانين التي تحكم إنسانه والتي نسجتها تلك الحكايات القديمة ورسختها العادات والتقاليد.
تقدم الرواية حكايتها، الحافلة بالمفارقات، من خلال جنين لم يزل يتشكل في رحم الأم واستبصاره الساخر للتقاليد والأعراف والعادات الليبية العربية الموغلة في القدم التي تكبل المرأة وتحد من حريتها وترسم لها دوراً تتوارثه الأجيال على مر الزمن، ويتأمل الجنين في سخرية لاذعة أحوال الواقع خارج الرحم وكيف تؤثر فيه روحياً وبدنياً وتهدد حياته قبل أن يطأ الأرض.
* فلسفة
اضطهاد المرأة ومعاناتها هو الثيمة الأساسية في العمل، الذي يتناول تلك القضية من خلال خيوط متعرجة ومشتبكة، وعبر رؤى فلسفية تهبط بكل يسر على قلب النص من دون أن يشعر القارئ بثقلها، على الرغم من أن العمل شديد التعقيد وبحاجة إلى قارئ خاص متأمل ومستبصر وقادر على تأويل العلامات وتفسير الرموز من أجل فهم الحكاية المراوغة، لذلك فإن بعض المنعطفات في السرد تحتاج في كل مرة إلى إعادة قراءة لفهم رسالة المؤلفة التي تخبئها بين السطور، وهي عملية شاقة خاصة أن الكاتبة تتبع منهجاً فلسفياً يحمل عطر ألتوسير، ورائحة جاك دريدا، من خلال تفكيكها للظواهر من أجل استجلاء ما وراءها واللحظة التي كونتها، ويبدو ذلك الأمر جلياً من خلال تتبع الرواية لقضية العادات المتوارثة ومقاومتها لكل أشكال التغيير الاجتماعي والحياتي، حيث ظلت مكانة المرأة في الواقع في مرتبة أدنى من الرجل رغم تغيير الزمان وملامح المكان، وكأن الرواية تجيب عن سؤال لماذا هذه القيم البالية عصية على التغيير؟ ولماذا هناك سعي إلى ترسيخها وكأنها هوية يعتز بها؟ وذلك التتابع في الأسئلة هو ما يميز هذا النص الذي يبدو بالفعل كمرافعة في محكمة الحياة ضد متهم واحد هو تلك التقاليد، أو هجائية مطولة ساخرة في مواجهة سلطة المجتمع.
* أساليب
هذه الرواية تؤكد الابتكار والتجديد في السرد العربي، والذي لجأ إليه العديد من الكتاب من أجل فهم الظواهر الاجتماعية المختلفة التي ظلت باقية في زمن الحداثة وكأنها تمد لسانها وتعلن بقاء القديم، واستعانت المؤلفة في توصيل هذه المعاني بعدد من التقنيات والأساليب خاصة تلك اللغة الشاعرية التي تخاطب الوجدان، ولا تكتفي بذلك بل تشرك القارئ في المأساة من خلال الوصف المعبر والنافذ إلى عمق الحقائق، وكذلك عبر السخرية القاتمة التي تمرر بها الكاتبة ثقل العوالم التي يحفل بها السرد، خاصة ذلك التهكم المرير من سذاجة بعض البشر والتي تجعلهم أسرى للخرافات، حيث تظهر تلك البساطة بشكل كبير من خلال بعض العادات الاجتماعية مثل الزواج المبكر الذي يصبح هدفاً وغاية، وكذلك طقوس الولادة وتفضيل الجنين الذكر على الأنثى، وكيف يتم بالاحتفاء بالمولود الولد بشكل عجيب، فالطفل الذكر هو امتداد لهيمنة الرجال.
الرواية محرضة على أن يعيد المرء التفكير في الكثير من الأشياء والممارسات والتصورات الزائفة، وتقوده نحو الحقائق العارية، التي تخلص الإنسان من طرق التفكير السائدة، وعلى الرغم من أن العمل يبدو متفككاً ومتشظياً، فإن متابعة المتلقي للقراءة تجعله يكتشف أن الرواية متماسكة ومترابطة في كل أطرافها لكن بصورة غير تقليدية، فهي لا تسير في خط مستقيم بل يصل القارئ إلى معانيها ومقاصدها من خلال خطوط متعرجة، فالسرد منذ لحظاته الأولى يحاكي ذلك التشظي الموجود في الحياة، وذلك الاغتراب الذي يعانيه الإنسان.
* عتبة نصية
يكاد يكون العنوان من أهم العتبات النصية المتعددة في الرواية، فهو يحمل العديد من الدلالات، وتمارس الكاتبة في السرد العديد من المراوغات بحيث يصل القارئ بنفسه إلى فك طلاسم العنوان الذي يشير إلى عشبة تنمو في الخلاء لها وبر ولا تأكلها إلا الأحصنة، وهي تستخدم لتبخير الدور لطرد الأرواح الشريرة، ويأتي هذا العنوان منسجماً مع أجواء الرواية وما تحمله من غرائبيات ومناخات فلكلورية وسحرية، وفي ذات الوقت يدل على هيمنة العادات على المجتمع، ونقرأ في الرواية هذا المقطع المفسر للعنوان: «ذهبت الوالدة صبيحة حلم ابنتها تفتش في الخلاء عن عشبة لها وبر ولا تأكلها إلا الأحصنة لكى تضعها في البيت وتبخر بها المكان»، وهذا المقطع يشير إلى هيمنة الخرافة كسلطة تتحكم في الناس يفسرون بها ما يستعصي على فهمهم.
* صدى
وجد هذا العمل صدى كبيراً وطيباً من قبل النقاد والقراء في مختلف أنحاء العالم العربي، نسبة لأسلوبها المبتكر، وكذلك لأنها تطرق على ضرورة التغيير والتمرد على القديم، وترى الكاتبة نفسها أن الرواية أداة للمقاومة، وفاز هذا العمل بجائزة مهرجان «البجراوية» الأول في الخرطوم عاصمة الثقافة العربية لسنة 2005.
* قبس من سيرة
المؤلفة من مواليد «أجدافيا» في ليبيا عام 1971، وهي أكاديمية حاصلة على ماجستير في التربية ومساعد محاضر في جامعة قار يونس، وتعد أول كاتبة ليبية تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عبر روايتها «زرائب العبيد»، عام 2017، وتعتبر هذه الرواية «وبر الأحصنة»، الصادرة عام 2005، أول أعمالها الروائية، ولها عدد من المؤلفات الأخرى إضافة إلى نصوص قصصية.
* اقتباسات
«المشاكسة كفيلة بتوسيع قضية سوء التّفاهم».
«من أطلق أول طلقة في تاريخ الأفراح المصحوبة منذ ذلك الوقت بالضحايا؟».
«عريسها بلا أم وبلا شقيقات وبلا قريبات ينافسنها على قلبه».
«يتيمة من دون أم تعلّمها شؤون الرعاية».
«عين الودود أكثر شراً ولؤماً من عين الحسود».
«بعض الأخلاقيات الرديئة يرضعها المرء مع الحليب».
«خطرت لها فكرة التريكو اليدوي لملء الجزء غير (المشغول) من وقتها».