الحروف: لحظة تألق جمالي مغربي

الحروف: لحظة تألق جمالي مغربي

تبرز في عالم الخط العربي أسماء كثيرة كان لها بصمتها الفنية الخاصة، استطاعت فيها أن تمنح الحرف حياة تتجاوز الورق والمداد، لتمتد إلى الروح والأصالة والجمال، ومن بين هؤلاء المبدعين يبرز عبد الرحيم كولين، الخطاط الذي استطاع أن يبيّن جماليات المدرسة المغربية لخط الثلث، بروح عصرية وبإتقان تقني، وذائقة جمالية رفيعة، ووعي تراثي يعيد فيه تشكيل الحرف في ثوب حديث نابض.

ينتمي كولين إلى نخبة الخطاطين الذين لم يكتفوا بتقليد الخطوط الكلاسيكية، بل سعوا إلى تصميمها على نحو بصري يعكس البيئة المغربية، من زخارفها الأندلسية، إلى الإيقاع المعماري الساحر، وهو بذلك يسير على خطى الرواد، لكنه يترك بصمته الخاصة التي تتجلى في اللوحة التي خط فيها مداده: «خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ».

*طابع مميز

المتأمل في اللوحة المؤلفة من أربع كلمات، في تكوين كلي لا يشعرك بتقطيع أو تفكك، بل يبدو وكأنه نفس واحد مسترسل، في تماسك بنيوي لجأ فيه كولين إلى جعل الكلمات المركزية «الناس»، و«للناس» هي محور الاتزان العمودي في منتصف اللوحة بأسلوب فني مميز، حيث يتصاعد حرف «الألف» و«اللام» بشكل مهيب، مع الاستفادة من التناظر والتكرار لحروف الكلمتين، بينما توزعت الكلمات الأخرى حولها بتوازن بصري مدروس.

العين تتحرك من اليمين حيث تبدأ الكلمة الأولى «خير» التي وضعها في البداية، بخط جلي وملتف، بتصوير رمزي ذكي وكأنها جذر الجملة، تنبثق منه بقية الكلمات، ثم صعوداً إلى «الناس» التي تتناظر مع «للناس» المميزة بلون أحمر، ثم تهبط بسلاسة يساراً إلى «أنفعهم»، والخطاط هنا يوجّه العين بخطوطه وإيقاعاته اللونية، ما يخلق إحساساً بالحركة والانسياب في عمل يظهر قدرة الخطاط على تنظيم الكتلة النصية، بحيث تجمع بين الاستقرار في القاعدة، والصعود البصري في المركز قبل أن تلامس الزخرفة الأندلسية.

الخط المستخدم في اللوحة هو الثلث الجلي المغربي، ويتميز هذا الخط المشرقي «المتمغرب» كما يسمى أحياناً، بليونة وانسيابية كبيرة وحرية أكبر في رسم الحروف، بخلاف الثلث المشرقي الذي يخضع لضوابط صارمة، فالثلث المغربي لا يخضع لتلك القواعد سوى المعايير الجمالية البصرية التي تضفي على الكتابة انسيابية وتناغماً داخلياً، وقوة تأثير على الناظر تشهد لها بالجودة والحسن ولصاحبها بالمهارة والحذق، وتتعدد صور الحرف الواحد وتتغير أحجامه حسبما يقتضيه وضعها في التشكيل الخِطاطي، ويتميز بامتداد الألفات واللامات بشكل طولي ورفيع، يمنح إحساساً بالسمو والعلو، تكون زوايا الحروف مائلة نحو الانسياب، مع الحفاظ على تماسكها، والمميز في خط كولين أنه لا يكتفي بإتقان قواعد الخط، بل يطوّعها ليمنح النص شخصية فريدة، فتبدو الحروف وكأنها «مبنية» أكثر من كونها مكتوبة.

*توازن

استخدم الخطاط كولين لونين أساسيين في كتابة لوحته، الأسود والأحمر، مع لمسات باللون الأخضر لعلامات التشكيل، هذا التباين اللوني في بعض الحروف يرمز غالباً إلى الفصل بين الدال والمدلول، أو لتسليط الضوء على لفظ مفتاحي، ككلمة «للناس»، وهي توجيه لطيف لكلمة «خير»، حيث يتلاقى المعنى الأخلاقي مع التمييز الفني البصري لونياً، وأضافت علامات التشكيل الخضراء لمسة مغاربية أصيلة، فهي من سمات الخط المغربي التقليدي، وتمنح العمل حيوية دون أن تشتت العين.

جاءت الزخرفة في اللوحة لتعزيز التوازن البصري، لتبدو اللوحة منقسمة إلى نصفين، نص قوي البنية، وزخرفة ناعمة التفاصيل، ونلاحظ الزخرفة الذهبية التي تحتضن يمين النص في إطار زخرفي، وامتداد روحاني للمعنى، جاءت فيه النقوش النباتية متداخلة، مستلهمة من الطراز الأندلسي، لتعكس مفهوم التداخل بين الخير والنفع، كما يتردد بصرياً مع انحناءات الحروف، في تجسيد روحي وفني لفلسفة الخير في ثوب مغاربي أنيق.

إضاءة

عبدالرحيم كولين، هو رئيس شعبة فن الخط العربي بأكاديمية الفنون التقليدية، وعضو اللجنة الوطنية لجائزة محمد السادس لفن الزخرفة على الورق، نال شرف كتابة المصحف الشريف برواية ورش عن نافع بالخط المغربي المبسوط، شارك منذ 1990 في عدة ملتقيات فنية وثقافية محلية ودولية أهمها: مهرجان الفنون الإسلامية بالشارقة سنة 2023، وملتقى الشارقة للخط سنة 2022، وملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي سنة 2022، ومعرض فن الخط العربي بمنظمة الإيسيسكو، في إطار الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية مع الجمعية المغربية لفنون الخط سنة 2021، ونال العديد من الجوائز على الصعيد المحلي والدولي، من بينها جائزة محمد السادس للتميز في فن الخط المغربي.