«الخط الديواني الرفيع».. الخشوع في فن الكتابة

الشارقة: رضا السميحيين
يعتبر الخط العربي أحد شواهد تجليات الجمال البصري، يحمل في طياته روح الحضارة وعمق التاريخ، رغم صخب أدوات التصميم الحديثة وسرعتها، تبقى قلوب الخطاطين المعاصرين تهفو إلى الكلاسيكيات في الخط العربي، حيث تختزل الروح في كل حرف، وينسج الإبداع بأنامل تحمل تراثاً عريقاً، لذلك نراهم يعودون إلى مدارس الخط العثماني والمملوكي والفارسي، يستلهمون منها الجمال الأصيل، ويحيون فناً لا يخضع لقوانين السرعة والآلة.
أما من ناحية قراءة اللوحة الخطية، فقد تجاوزت جماليتها، فك التشابك الحروفي أو تذوق جمال الخط فحسب، لتصبح العلاقة بين الشكل والمضمون نافذة جديدة لفهم العمل الفني الخطي، فالشكل الذي تقدم به اللوحة يحيلنا إلى عوالم متخيلة في التكوين البنائي، ويُفتح به الباب على مصراعيه لتأويلات مشهدية لا تنتهي، ولدخول إلى عقل الخطاط وروحه، والذي يخط لوحة تحكي روح الماضي بلغة الحاضر.
*تكوين
في هذا السياق الفني، تأتي لوحة الخطاط عقبة الخيرات تجسيداً لجماليات الحرف والمعنى، والتي خط فيها العبارة «استغفر الله»، مبدعاً في طريقة كتابتها وأسلوب بنائها، لتستحضر فعل الاستغفار في حد ذاته، وتتجاوز فيها الموهبة حالة التجسيد البصري لكلمات مألوفة، مترجمة بلغة الحبر واللون، تتحول فيها الحروف إلى لحظات خشوع، والنقاط إلى دعوات من القلب.
جاء اختيار الخطاط في لوحته خط «الديواني الجلي»، المعروف بأنه خط التماوج والسيولة من حيث اعتماده على استدارة الحروف وتداخلها، كما أنه يتميز بكثرة علامات الزخرفة التي تملأ ما بين الحروف، وهو بذلك خط زخرفي بالأساس، وقد ولد هذا الخط في بيئة القصور السلطانية، لكنه تجاوز الأسوار ليصبح لغة للرقة والعذوبة المدهشة، وفي هذه اللوحة يوظف عقبة الخيرات خصائص هذا الخط بإبداع مميز ينم عن تمكن ومهارة.
يبدأ التكوين الشكلي من دائرة مغلقة، في إحالة رمزية إلى الاكتمال، أو ربما إلى النفس التي تتقلب بين الذنب والتوبة داخل دائرة الحياة، تنتشر الحروف في عين الدائرة، كأنها حالات من الشك واليقين في حالة انجذاب، كل منها يتبع الآخر، دون تصادم أو فوضى، تتماوج الحروف بتناغم شديد، وتتماسك كما تتماسك قطرات المطر على صفحة ورق.
كان الجزء الأكثر بروزاً في التكوين هو «حرف الألف» في مطلع الكلمتين اللتين تتألف منهما اللوحة، وحيث ارتفع عمودياً إلى الأعلى، بجذعين طويلين مستقيمين، يعطي فيه هذا الارتفاع بعداً روحانياً قوياً، يوحي بالسمو والتطلع، وكأن هذه الكلمة تحديداً تخرج من الدائرة لتصعد إلى مراتب الجلالة، في تصعيد بصري بحرف خاشع.
*جماليات
اعتمدت اللوحة على ألوان محدودة، ما يمنحها هدوءاً بصرياً يناسب المعنى المتأمل لعبارة «استغفر الله»، حيث الخلفية بلون عاجي ناعم، تسمح للنص بأن يبرز بوضوح، أما الحروف فهي بخط أسود غني، ينقل الجدية والوقار، ويعكس الثقل المعنوي للكلمة، ولكن الحضور الأكثر دهشة يأتي من النقاط الحمراء، وهي أربع صغيرة موزعة بشكل مدروس داخل الدائرة، كاسراً رتابة التدرج اللوني الأحادي، لتخلق نقاط توتر لوني محكوم، تشكل فيها النقاط في سياقها الديني والتي يمكن تأويلها كرمز للانتباه والتوقف الخاشع، أو حتى كنبضات قلب تتلو الاستغفار باللسان.
توزيع هذه النقاط الأربع يحقق توازناً لونياً دقيقاً، لا يطغى على النص، لكنه يشد العين ويوقظ الروح، وهو استخدام ذكي يعزز التركيز البصري والمعنوي، أما التوزيع الزخرفي بالنقاط وعلامات الترقيم فكان حاضراً بكثافة غير فوضوية، تتوزع فيها النقاط كما تتوزع النجوم في سماء ليلية، تخدم النص من حيث إيقاعه وتشكيله، وتمنحه أيضاً حالة إيمانية صامتة، تحولت فيه النقطة إلى أداة لإحداث التوازن البصري داخل التجويف المعماري للنص.
ما يجعل هذه اللوحة مميزة جمالياً، هو أنها لا تنفصل عن معناها، فالاستغفار، وهو فعل بين العبد وربه، يترجمه الخطاط إلى شكل دائري مغلق، وكأن الذنب والتوبة يدوران في دائرة واحدة، لا يكسرها إلا تصعيد اسم الجلالة إلى أعلى، في مزيج من التكوين المتقن، والاختيار اللوني الرصين، والتوازن البصري الذي يشبه في دقته توازناً داخلياً يطلب بالاستغفار.
إضاءة
ولد الخطاط عقبة الخيرات،عام 1968، ودرس الخط العربي على يد أيمن حسن، شارك عدة مرات في مسابقة الكويت لفن الخط العربي، و في عدة معارض لمركز الكويت للفنون الإسلامية، كما شارك في العديد من معارض الخط العربي، ومنها المعرض الافتراضي للخط العربي.