هل سيكون هذا هو التراجع النهائي لإيران؟

لم يكن الهجوم الإسرائيلي المباغت على إيران مجرد رد فعل عسكري محدود، أو عملية ذات طابع استخباراتي فائق، بل إعلان صارخ عن دخول الشرق الأوسط طورا جديدا من “التحولات العنيفة”، التي يُراد من خلالها إعادة ترسيم خرائط القوة والنفوذ تحت غطاء من العجز الإقليمي واختلال معادلات الردع.أكثر من 200 طائرة إسرائيلية دخلت العمق الإيراني بلا اعتراض. لا صاروخ واحد انطلق، ولا طائرة اعترضت، ولا رادار اشتبك. قُتل قادة الصف الأول في الحرس الثوري ومعهم رئيس الأركان، وعلماء البرنامج النووي في غرف نومهم، ما يطرح الكثير من الأسئلة حول قدرة إيران على حماية نفسها ومشروعاتها وقياداتها إن كانت بهذه الدرجة من الانكشاف!الضربة الإسرائيلية المتوقعة لم تجد من الجانب الإيراني ما يمنعها أو يقلل من حدتها وخسائرها رغم أن العالم كله كان يتوقع ذلك الهجوم. فشل إيراني هائل مقابل نجاح إسرائيلي ساحق، بشكل يوضح حقيقة ميزان القوى القائم والفروق النسبية بين طهران وتل أبيب. لا يستطيع أحد أن يفهم كيف لدولة بحجم إيران تسعى لامتلاك السلاح النووي، أن تعجز عن حماية قادتها وعلمائها ومعلوماتها وملفاتها الحساسة بهذه الطريقة؟ المنظومة الدفاعية الإيرانية اخترقت بالكامل، أو تعطلت عمدا نتيجة خيانة أو ما شابه، لكن في كل الأحوال لم تعتمد إسرائيل على طائراتها وذراعها الطولى فقط، بل على بنك معلومات فائقة الدقة جمعته نتيجة اختراق بشري وإلكتروني عميق. هذا الانكشاف الأمني يؤكد أن الموساد لم يكن يخطط من بعيد، بل على الأرض وداخل أكثر الدوائر الأمنية الإيرانية حساسية.ما جرى لا يُقاس بالخسائر في الأرواح أو الممتلكات، بل بانهيار معادلة الردع الإقليمي الذي سينعكس حتما على بقية دول المنطقة، وينصب الكيان الصهيوني زعيما جديدا للشرق الأوسط ما لم يأت الرد الإيراني على مستوى الضربة أو يفوقها قوة. ليس من مصلحة دول المنطقة أن تنتهي اللعبة عند هذا الحد.هذه ليست سوريا أخرى، ولا ليبيا جديدة، وليس المطلوب التخلص من نظام الحكم كما جرى في العراق بل الهدف هو “تركيع إيران” ووأد قدرتها النووية في مهدها والقضاء على ثقتها وزهوها حتى لا ترفع الرأس مرة أخرى في وجه إسرائيل ومن ورائها أمريكا.المراقب لتتابع الأحداث، يدرك أن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة لإنهاء “المهمة الكبرى”: تحييد إيران، وتفكيك نفوذها، وإجبارها على الركوع.ما يجري في الظاهر هو معركة إقليمية، أما في العمق، فهو فصل جديد من فصول الحرب العالمية المنتظرة.تريد أمريكا كسر إيران لا لذاتها وطموحاتها ومشروعاتها فقط، بل لأنها ترتبط بعلاقات قوية بخصومها. هي توفر للصين امدادات هائلة من مصادر الطاقة. كما أنها تطل على بحر قزوين، ما يجعل إخضاعها خطوة في استكمال حصار روسيا من الجنوب الشرقي، فضلا عما تمثله لمشروع المقاومة في المنطقة ودورها في الربط بين جبهات الشام وبغداد وبيروت، وصولا إلى صنعاء وغزة.بعبارة أكثر وضوحا، إسقاط إيران يعني إعادة صياغة المنطقة من جديد، وفرض “خرائط ما بعد الصراع”.الخليج والرهانات الخاطئةالكثير من القرائن يشير إلى أن الضربة الإسرائيلية لإيران جرى الاتفاق عليها خلال زيارة ترامب لدول الخليج. يبدو أن التأكيد كان قاطعا: ما لم تتراجع إيران خلال المفاوضات عن مشروعها النووي سندفع إسرائيل لقصفه، فقط عليكم التمويل والمباركة. في المقابل حصل ترامب على التطمينات التي يريدها: لن يكون هناك عجز في إمدادات الطاقة حال ضرب إيران وسنضاعف إنتاجنا لتعويض النقص.لم يكن كلام شركات الطاقة الغربية بعد الهجوم الإسرائيلي مباشرة عن “استعداد أوبك لتعويض أي نقص في النفط الإيراني” مجرد تعبير عن براجماتية اقتصادية، بل إشارة ضمنية عن تنسيق مسبق.حصلت واشنطن على تعهدات خليجية، وخاصة من السعودية، بفتح الصنابير فورا إذا تعطلت حقول إيران وتوقفت إمداداتهاالسؤال الأكثر حساسية: هل موّلت بعض العواصم الخليجية، ولو من تحت الطاولة، الهجوم الإسرائيلي؟الإجابة على الأرجح: نعم.الخليج دخل اللعبة الكبرى كجزء من المخطط لا كأحد المتفرجين، وعلى قاعدة أن تحجيم إيران هو مصلحة استراتيجية للحلف الأمريكي الإسرائيلي الخليجي.ربما تظن الدول الخليجية خطًأ أن الخلاص من إيران ومشروعها المزعج سيحقق الأمن والاستقرار للمنطقة، دون الانتباه لتوحش الكيان الصهيوني في المقابل بعد خلو الساحة أمامه ما يجعله يتفرغ لالتهام الجميع.قولا واحدا قاطعا، لن يتوقف الهجوم الإسرائيلي عند حدود الضربة الموجهة للمشروع النووي الإيراني، ولن يقف عند تخوم إيران ذاتها، بل هو فصل مركزي في مشروع إقليمي شامل، تسعى إسرائيل من خلاله إلى تصفية كل ما تبقى من مراكز القوة في العالمين العربي والإسلامي، وتفكيك أي إمكانية لاستعادة التوازن في المنطقة، وإجهاض أي محاولة لبناء نموذج تنموي مستقل عن الفلك الإسرائيلي الغربي. إنها معركة على الوجود والمستقبل، تتجاوز الأسلحة والخرائط، إلى استباحة الإرادات وسحق الاستقلال الوطني، وفرض واقع جديد لا مكان فيه إلا لـ”القوة الوحيدة” المهيمنة في المنطقة، ولا صوت فيه إلا لمن يملك التفوق والسيادة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والدعائية معا. كما يراد للمقاومة الفلسطينية أن تنكسر وتختفي من الصورة، يراد لإيران أن تخضع عنوة، وتصبح مرادفا لحالات عربية جرى تحييدها وتطويعها وإعادة تدويرها سياسيا واقتصاديا وأمنيا تحت عناوين الأمن والاستقرار والتحديث، بينما الحقيقة أنه مشروع إخضاع شامل للمنطقة، لن يبقى لدولها من السيادة شيئا، ولا من استقلالها الوطني أثرا.في ظل هذا الواقع الجديد لن تترك إسرائيل لمن حولها إلا الفتات، لا قوة عسكرية حقيقية، ولا ثروة مالية سيادية، ولا نفوذ إقليمي أو عالمي مستقل. ستمسك بمفاتيح القرار في العواصم العربية، وسترسم خرائط المصالح لفائدتها أولا. ستحدد خيوط التأثير في مراكز النفوذ، بحيث تصبح كل حركة في الإقليم، من أعلاها إلى أدناها، مرهونة بإرادة تل أبيب أو بموافقة حلفائها، وما يُترك للآخرين هو هامش محدود من الازدهار الاستهلاكي الزائف، أو النفوذ المؤقت، القابل للاسترداد إذا تعارض مع “الترتيب الجديد للمنطقة”.الرهانات الخليجية على الحماية الإسرائيلية من الخطر الإيراني تستند لقراءة خاطئة، قاصرة النظر، وتقوم على مقامرة غير مأمونة العواقب وكأنها لعب بالنار في وسط قابل للاشتعال.ما جرى ليس مجرد “ضربة إسرائيلية”، بل هو حلقة من حلقات هندسة الشرق الأوسط الجديد، ولهذا تحديدا كان مقصودا أن يتم تحييد مصر بوزنها وأثرها عن المعادلات الجديدة، فالاختلافات مع القاهرة حول خطة إعمار غزة ورؤيتها للحل والتهدئة الإقليمية جاءت كلها في هذا الإطار. مصر وحدها هي القادرة الآن على إفساد تلك المخططات الهادفة لتسليم الشرق الأوسط “تسليم مفتاح” إلى الصهاينة، وإذا لم تُكسر هذه الحلقة من مكانها الأصيل في القاهرة، فستتوالى الحلقات حتى تنكسر كل إرادة، ويُعاد صياغة الإقليم كما تشاء واشنطن وتل أبيب.