خداع مصر الاستراتيجي.. درسٌ اكتسبته إسرائيل!

هل كان رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، على علم بخطط إسرائيل لضرب إيران؟.. الجواب: نعم.. قال ترامب لصحيفة (وول ستريت جورنال)، إن فريقه كان على علم بخطط إسرائيل لمهاجمة إيران، وحذر إيران أيضًا من (هجمات أكثر وحشية)، ما لم يوافق المسئولون الإيرانيون على اتفاق، وحثهم على القيام بذلك (قبل أن لا يتبقى شيء)!!.. بل إن المشرعين الجمهوريين يدعمون هجوم إسرائيل بقولهم، (بدأت اللعبة.. صلوا من أجل إسرائيل)!!، كما نشر السيناتور ليندسي جراهام، الجمهوري من مقاطعة كولومبيا، على موقع X، بينما أعرب مشرعون جمهوريون آخرون عن مشاعر مماثلة.. فماذا حدث أولًا؟.
شنّت إسرائيل هجومًا كبيرًا وغير مسبوق على إيران بين عشية وضحاها، مما أدى إلى تصعيد حاد في التوترات المستمرة منذ فترة طويلة بين البلدين.. إذ وجهت إسرائيل ضربات للعاصمة الإيرانية طهران، استهدفت منشآت نووية وعسكرية، إذ لماذا ترى إسرائيل أن البرنامج النووي الإيراني المتوسع يُشكّل تهديدًا لوجودها، في الوفت الذي تحاول الولايات المتحدة التفاوض مع المسئولين الإيرانيين على اتفاق لتقليص قدراتهم النووية، لكن هذه المحادثات وصلت إلى طريق مسدود.. وردت إيران بإطلاق أكثر من مائة طائرة بدون طيار باتجاه إسرائيل، وأكثر من مائة وخمسين صاروخًا باليستيا.. وبات السؤال الأهم الذي يلوح في الأفق: إيران تُلوّح بمزيد من الرد.. هل ستساعد الولايات المتحدة إسرائيل إذا حدث ذلك، وتدخل في حرب مباشرة ضد إيران؟
الإجابة أيضَا بنعم، بناءًا على تعهد ترامب بحماية إسرائيل، وهو الذي ساعد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على اتخاذ قرار ضرب إيران الأن، ومارس خداعًا لطهران، حينما أكد أنه طالب نتنياهو بعدم التهديد بضرب إيران، مادامت مفاوضتها مع واشنطن يشأن برنامجها النووي مستمرة، بل إن هناك اجتماعًا مفترضًا لمواصلة النقاشات بين طهران وواشنطن بشأن ذلم، في عُمان الأحد القادم!!.. نعم خداه استراتيجي، شاركت فيه واشنطن وتل أبيب، استعادة لتجربة الخداع المصري قبل حرب أكتوبر 1973، وفاعليته في تحقيق المفاجأة للعدو الإسرائيلي، وبالتالي تم عبور قناة السويس، وتحقيق النصر المُؤزر في ذلك اليوم التاريخي.
على نفس النهج المصري، ضللت إسرائيل طهران قبل الضربة العسكرية الأخيرة على إيران، إذ يعتقد مسئولون دفاعيون إسرائيليون، أن عنصر المفاجأة عزز من تأثير العملية العسكرية، وربما يمنح إسرائيل وقتًا حاسمُا، مع اقتراب إيران من القدرة على امتلاك الأسلحة النووية.. ونشرت صحيفة (جيروزالم بوست) العبرية، أن إسرائيل وصفت اجتماع مجلسها للأمن القومي مساء الخميس الماضي، عمدًا، بأنه لمناقشة مفاوضات الرهائن، من أجل تهدئة طهران وإعطاء الضوء الأخضر للضربة التي ستنفذ قبل الفجر داخل إيران.. وتقول الصحيفة، أنه تم إبلاغ الوزراء مُسبقًا، بأن جدول الأعمال سيُركّز على المحادثات المُتعثرة لإطلاق سراح الإسرائيليين المُحتجزين في غزة، و(كان الهدف هو تهدئة إيران).. وبمجرد دخولهم إلى المنتدى الآمن، وافقت الحكومة بالإجماع على العملية العسكرية، ووقع كل وزير على تعهد صارم بعدم الإفصاح عنها، والمعروفة باسم وثيقة (حارس السر).. ولم يتم إطلاع سوى عدد قليل من المسئولين، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الشئون الاستراتيجية رون ديرمر، ومدير الموساد ديفيد برنياع، وكبار رؤساء الدفاع، على الخطة الكاملة لضرب إيران
في الأيام التي سبقت توجيه الضربة الإسرائيلية على إيران، دبر مكتب رئيس الوزراء سلسلة من تكتيكات الخدع.. أبلغ مساعدو نتنياهو الصحفيين، أنه يخطط لقضاء عطلة عائلية في الجليل، وسوف يحضر حفل زفاف ابنه أفنير يوم الثلاثاء المقبل، مما عزز الانطباع بأنه لا يوجد عمل عسكري كبير وشيك.. وأصدر مكتب رئيس الوزراء بيانًا، زعم فيه أن ديرمر وبارنياع سيتوجهان إلى واشنطن يوم الجمعة للقاء المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، لحضور جولة سادسة من المحادثات النووية الإيرانية ـ الأمريكية في عُمان، وهي محادثات وهمية، إذ وبقي الرجلان في إسرائيل ولم يغادراها.. وللمرة الأولى، رفض مكتب نتنياهو نفي التصريحات، التي تصف الخلاف بين رئيس الوزراء والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن ضربة محتملة لإيران، مما خلق شعورًا بوجود خلاف دبلوماسي وخفض مستويات التأهب الإيرانية بشكل أكبر.. وقد انطلقت حملة التضليل هذه، على خلفية دراما سياسية داخلية حول قانون تجنيد الحريديم في الجيش الإسرائيلي، وتكهنات بانهيار الائتلاف، (لقد كان ذلك ستارًا دخانيًا مثاليًا)، في وقت كان المسئولين الأمريكيين على دراية كاملة بالوضع، رغم هذه المسرحية العلنية.. ولم تلتف طهران إلى أن ترامب أعطى إيران بشكل علنب، مهلة (ستين يومًا للتوصل إلى اتفاق)، في الثاني عشر من أبريل الماضي، وقد أشار الصحفي أميت سيجال، من القناة الثانية عشر العبرية، على منصة X، وكتب (اليوم، هو اليوم الواحد والستين)، ملمحًا إلى أن الموعد النهائي كان عاملًا في توقيت تل أبيب لموعد ضرب إيران.. كما لم تقرأ طهران، ماذا يعني تقليص إدارة ترامب، قبل يوم من الضربات، وجودها في العراق، وأعطائها الضوء الأخضر لمغادرة العسكريين التابعين لها في شمال شرق إفريقيا، والشرق الأوسط، وأجزاء من جنوب ووسط آسيا!!.
●●●
لن تترك واشنطن إسرائيل وحدها في معركتها ضد إيران.. أكد مسئول أمريكي لصحيفة (ذا هيل) الأمريكية، أن الولايات المتحدة تساعد إسرائيل في اعتراض الصواريخ الإيرانية التي أطلقت يوم الجمعة، إذ تعرضت تل أبيب لقصف كثيف من إيران، بعد أقل من أربعة وعشرين ساعة، من قيام القوات الإسرائيلية بشن هجماتها مساء الخميس، والتي استهدفت القدرات النووية لطهران، وأدت إلى مقتل العديد من كبار المسئولين العسكريين وعدد من العلماء النوويين.. أكد مسئول في البيت الأبيض، أن الرئيس ترامب تحدث أيضًا مع نتنياهو، وكان ترامب قد أمضى يوم الجمعة في غرفة العمليات مع عدد من مستشاري الأمن القومي، بعد أن أبلغت إسرائيل الولايات المتحدة، بأن تحركها (ضروري للدفاع عن نفسها)!!.. حتى بعد الضربات الإسرائيلية، حثّ ترامب إيران على الموافقة على اتفاق للحد من برنامجها النووي، وإلا ستواجه عواقب وخيمة.. كما أقرّ بمقتل بعض المفاوضين في الضربات الإسرائيلية.. نشر على منصة تروث سوشيال، (لقد شهدنا بالفعل موتًا ودمارًا هائلين، ولكن لا يزال هناك وقت لإنهاء هذه المذبحة، مع توقع هجمات أخرى أكثر وحشية وتخطيطًا.. على إيران إبرام صفقة قبل أن يضيع كل شيء، وإنقاذ ما كان يُعرف سابقًا بالإمبراطورية الإيرانية).
صحيح، أن العملية الإسرائيلية الواسعة النطاق التي استهدفت بها المنشآت النووية الإيرانية ومواقع الصواريخ والعلماء والجنرالات، جاءت بعد ثمانية أشهر من الاستعدادات السرية المكثفة، إلا أنها أطلقت حربًا جديدة في الشرق الأوسط، قد تجر الولايات المتحدة، وتقضي على أي أمل في التوصل إلى اتفاق نووي، ووجهت ما يمكن اعتباره أكبر ضربة للنظام الإيراني منذ ثورة 1979.. وما هذه إلا البداية، إذ أعلن نتنياهو، أن إسرائيل تسعى إلى (القضاء) على القدرات النووية والصاروخية الباليستية الإيرانية، في عملية يُتوقع أن تستمر عدة أيام على الأقل.. وقال مسئولون إسرائيليون آخرون، إن العملية قد تستغرق أسابيع.. وقد حاولت إسرائيل ـ في الساعات الأولى فقط ـ اغتيال علماء نوويين، تزعم أنهم يمتلكون الخبرة اللازمة لصنع قنبلة نووية.. استهدفت حوالي خمسة وعشرين عالمًا، وتأكد مقتل ستة منهم على الأقل حتى الآن.. كذلك، استهدفت كبار قادة الجيش الإيراني.. وتم تأكيد مقتل قائد الحرس الثوري ورئيس الأركان، بالإضافة إلى جنرال كبير آخر.. لم تقتصر العملية الإسرائيلية على الغارات الجوية فحسب، بل صرّح مسئولون، بأن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) لديه عملاء على الأرض، ينفذون عمليات تخريب سرية على مواقع الصواريخ والدفاع الجوي.. ومن المتوقع أن تواصل إسرائيل قصف المنشآت النووية الإيرانية تحت الأرض في الأيام المقبلة، إلى جانب أهداف أخرى.
تبلورت فكرة تنفيذ عملية تستهدف في وقت واحد، برامج إيران الصاروخية والنووية ـ والتي وصفها نتنياهو بأنها تهديدات وجودية لإسرائيل ـ بعد أن ضربت إيران إسرائيل في أكتوبر الماضي، خلال دورة من التصعيد المتبادل بين البلدين.. وبدافع من ترسانة الصواريخ الإيرانية سريعة النمو، ودفاعاتها الجوية الضعيفة في أعقاب الرد الإسرائيلي، أمر نتنياهو الأجهزة العسكرية والاستخباراتية بالبدء في التخطيط.. وقال الجيش الإسرائيلي، إن هناك عاملًا آخر، يتمثل في معلومات استخباراتية حول أبحاث وتطوير الأسلحة النووية، والتي تشير إلى أن إيران قادرة على بناء قنبلة بسرعة أكبر إذا اختارت القيام بذلك.. وقد زاد من إلحاح الأمر، افتتاح منشأة جديدة للتخصيب تحت الأرض، وهي المنشأة التي ستكون محصنة حتى ضد القنابل الأمريكية الضخمة التي تخترق المخابئ.. وحتى في الوقت الذي سعى فيه ترامب إلى التوصل إلى اتفاق نووي، كانت إسرائيل تستعد لهذه الضربة، بجمع المعلومات الاستخباراتية، وتحديد مواقع الأصول، وإجراء التدريبات في نهاية المطاف.. وأثارت هذه الاستعدادات قلق البعض في البيت الأبيض، الذين رأوا أن نتنياهو قد يتحرك حتى بدون الضوء الأخضر من ترامب.
وبينما أكد نتنياهو لترامب أنه لن يفعل ذلك.. إلا أن البيت الأبيض أبلغ نتنياهو، أنه إذا هاجمت إسرائيل إيران، فستفعل ذلك بمفردها.. وقال ترامب نفسه عدة مرات في الأيام الأخيرة، بما في ذلك قبل ساعات من الضربات، إنه يعارض أي ضربة إسرائيلية من شأنها أن (تفجر) المفاوضات.. لكن في الساعات التي تلت بدء الهجوم، أبلغ المسئولون الإسرائيليون الصحفيين، أن كل هذا كان بالتنسيق مع واشنطن، كما يؤكد باراك رافيد في (أكسيوس)، وزعم مسئولان إسرائيليان للموقع، أن ترامب ومساعديه كانوا يتظاهرون فقط بمعارضة هجوم إسرائيلي علنًا، ولم يُعربوا عن معارضتهم سرًا.. وزعم أحدهما قائلًا، (حصلنا على ضوء أخضر أمريكي واضح).. كان الهدف، إقناع إيران بعدم وجود هجوم وشيك، والتأكد من أن الإيرانيين الموجودين على قائمة الأهداف الإسرائيلية لن ينتقلوا إلى مواقع جديدة.. حتى أن مساعدي نتنياهو أطلعوا الصحفيين الإسرائيليين، على أن ترامب حاول وضع حد للهجوم الإسرائيلي في مكالمة هاتفية يوم الاثنين الماضي، في حين تناولت المكالمة في الواقع، التنسيق قبل الهجوم، حسبما يقول المسئولون الإسرائيليون الآن.
لم يؤكد الجانب الأمريكي أيًا من ذلك.. في الساعات التي سبقت الضربة وتلت، نأت إدارة ترامب بنفسها عن العملية الإسرائيلية في تصريحات علنية ورسائل خاصة إلى حلفائها.. وصرح وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، سريعًا، بأن الهجوم الإسرائيلي كان (أحادي الجانب)، ولم يكن هناك أي تدخل أمريكي.. إلا أنه وبعد ساعات، أكد ترامب أنه كان يعلم أن الهجوم قادم، لكنه أكد أن الولايات المتحدة لم يكن لها أي تدخل عسكري، لكن الأيام القادمة ستكشف مدى الدعم الاستخباراتي واللوجستي والدفاعي، الذي تقدمه الولايات المتحدة للعملية الإسرائيلية، خصوصًا وقد بدأت إيران بإطلاق مئات الصواريخ الفرظ صوتية، والطائرات بدون طيار تجاه إسرائيل، وربما تتوجع في الأيام القادمة نحو القواعد الأمريكية في المنطق، إذا شاركت واشنطن فعليًا في الحرب على طعران، إذ هدد مسئولون إيرانيون، بأن ردهم سيكون موجها للولايات المتحدة أيضًا.
●●●
يُشبِّه الكاتب توم نيكولز، في (أتلانتك) مايحدث بين تل ابيب وطهران، بفيلم (العراب) الكلاسيكي لعام ١٩٧٢، ففي نهاية أحداث الفيلم، يحضر مايكل كورليوني، زعيم العائلة الجديد، معمودية، بينما يبيد رجاله رؤوس عائلات المافيا الأخرى في نيويورك، وجميعهم أعداء مايكل، وجميعهم ينوون إيذاءه يومًا ما.. وبدلًا من انتظار هجماتهم الحتمية، يقضي عليهم مايكل بنفسه.. يقول مايكل لصهره الخائن، قبل أن يقتله، (اليوم، حسمتُ جميع شئون العائلة).. أي ما يُسميه العسكريون (الضربة الاستباقية)، التي تستخدمها إسرائيل كثيرًا بالباطل.
شنّ الإسرائيليون هجومًا واسعًا وشاملًا على إيران، يبدو وكأنه محاولة لتصفية حسابات عائلية، إن صح التعبير.. وصفت الحكومة الإسرائيلية هذا الهجوم بأنه ضربة (استباقية) على إيران: (نحن الآن أمام فرصة استراتيجية سانحة، ونقترب من نقطة اللاعودة، ولم يكن أمامنا خيار سوى التحرك)، هذا ما صرّح به مسئول عسكري إسرائيلي للصحفيين.. ويشير متحدثون إسرائيليون إلى أن هذه الهجمات، المسماة (عملية الأسد الصاعد)، قد تستمر لأسابيع.. لكن وصف هذه الضربة بـ (الاستباقية) أمرٌ مشكوكٌ فيه.. فالإسرائيليون، بناءً على ما نعرفه حتى الآن، يخوضون حربًا وقائية: فهم يُزيلون مصدر التهديد على حين غرة، وفقًا لجدولهم الزمني الخاص، وبشروطٍ يجدونها مناسبة.. قد يكون ذلك مُبررًا لهم، لكن مثل هذه الأفعال تنطوي على مخاطر أخلاقية وعملية جسيمة، لا تجد ما يبررها.
الهجمات الاستباقية، في كلٍّ من القانون الدولي وتقاليد الحرب التاريخية، هي هجمات مُفسدة، تهدف إلى إحباط هجوم وشيك.. في كلٍّ من التقاليد والقانون، يُعدّ هذا النوع من الدفاع عن النفس مُبرَّرًا تمامًا، على غرار المبدأ في القانون المحلي، الذي ينص على أنه عندما يُشَدِّد شخصٌ قبضة يده أو يُشَدِّد مسدسًا، لا يحتاج الضحية المقصودة إلى الوقوف هناك وانتظار تلقي لكمة أو إطلاق نار.. ومع ذلك، لطالما اعتُبرت الهجمات الوقائية في المجتمع الدولي غير قانونية وغير أخلاقية.؟ ويزخر التاريخ بالإجراءات الوقائية غير المدروسة، بما في ذلك غزو إسبرطة لأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، والهجوم الياباني على بيرل هاربور، والحرب الأمريكية على العراق عام 2002.. أحيانًا، تكون مثل هذه الحروب نتاجًا للغطرسة أو سوء التقدير أو الخوف المُطلق، لكنها جميعًا تشترك في سمة مشتركة، وهي أن خيار خوض الحرب كان قائمًا على تهديد حقيقي، ولكنه ليس وشيكًا.
من المفارقات أن الإسرائيليين يُذكرون في سجلات الحالات، كأوضح مثال على هجوم استباقي.. في عام ١٩٦٧، سبقت إسرائيل تحالفًا عربيًا كان يُعلن عن نيته تدمير إسرائيل.. لكن في الواقع، أشار خبراء القانون الدولي إلى أن حرب ١٩٦٧ واضحة جدًا، لدرجة أنها لا تُعتبر سابقة، لأن معظم العرب ليسوا أغبياء بما يكفي لحشد جيش وإعلان نيتهم الغزو، (بالطبع، يمكن للإسرائيليين أن يقولوا بأنهم في حالة حرب بالفعل مع إيران، الدولة التي أطلقت عليهم العديد من الصواريخ وشنّت لسنوات هجمات بالوكالة على شعبهم وجيشهم، وهو ما يُمثل حجة أقوى بكثير).. لكن إذا كان الإسرائيليون يُحددون شروط النقاش، بزعمهم أنهم يخوضون حربًا استباقية ـ لا وقائية ـ فسيتعين عليهم إثبات للمجتمع الدولي، أن التهديد الذي يُشكله البرنامج النووي الإيراني يتطلب اتخاذ إجراء فوري، دون أي تأخير.
هذا المنطق مُعقّد الآن بسبب اتساع نطاق الهجوم الإسرائيلي.. أفادت التقارير بمقتل عدد من كبار القادة الإيرانيين، بمن فيهم من هيئة الأركان العامة الإيرانية، مما يُشير إلى أن هدف إسرائيل قد يكون القضاء على النظام الإيراني، ربما بهدف إلى تغييره.. إذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي للإسرائيليين أن يُحاصروا أنفسهم ـ كما فعل الأمريكيون عام ٢٠٠٢ ـ بمبررات واهية بشأن الاستباق.. عليهم ببساطة أن يُقرّوا بأنهم توصلوا إلى قرار بالقضاء نهائيًا على التهديد الوجودي لإسرائيل من إيران.. وهذا يقودنا إلى السؤال المهم: إذا كانت إسرائيل وإيران خصمان تقليديان منذ عقود.. فما القادم بينهما؟
شكل الصراع بين إسرائيل وإيران ملامح الشرق الأوسط على مدى عقود.. وظل هذا الصراع في معظمه على نار هادئة، حيث تبادلت الدولتان الهجمات ـ غالبًا بشكل غير معلن، وفي حالة إيران غالبًا عبر وكلاء ـ مع تجنب اندلاع حرب شاملة.. لكن وتيرة الأعمال العدائية تصاعدت، بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، في أكتوبر 2023.. ومنذ ذلك الحين، تبادلت الدولتان القصف على أراضي بعضهما بعضًا، في حوادث متفرقة باستخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة.. ثم جاءت نقلة تصعيدية كبرى، عندما شنّت إسرائيل في الثالث عشر من يونيو الماضي، ضربات جوية استهدفت منشآت عسكرية إيرانية وبرنامجها النووي، بالإضافة إلى علماء وقادة عسكريين.
وقعت انفجارات عنيفة في العاصمة الإيرانية طهران، لدرجة أنها كانت مرئية ومسموعة للسكان.. ولقي قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي حتفه في الضربات.. ووصفت إسرائيل العملية بأنها (ضربة استباقية) وأعلنت حالة الطوارئ.. لكن، قد يصبح التصعيد إلى حرب مفتوحة، احتمالًا واقعيًا في ظل تجدد التركيز على القدرات النووية الإيرانية.. وذلك لأن إسرائيل، التي يُعتقد على نطاق واسع أنها تمتلك أسلحة نووية، تعتبر منذ وقت طويل، أن امتلاك إيران للأسلحة النووية يُشكل تهديدًا وجوديًا لها.
ما لا يمكن إنكاره، أن القوات الإسرائيلية تتمتع بتفوق تكنولوجي هائل مقارنة بنظيرتها الإيرانية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الدعم العسكري والمالي من جانب الولايات المتحدة، التي تسعى منذ زمن لضمان تفوق إسرائيل، بموجب التزامها بأمن الدولة اليهودية.. كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط حتى الآن، التي اشترت مقاتلات الشبح F-35، وهي أغلى نظام سلاح في التاريخ.. كما تمتلك إسرائيل أسلحة نووية، رغم أنها لم تعترف رسميًا بذلك.. أما إيران، فلطالما اشتُبه في أنها تسعى لاستخدام برنامجها النووي المدني كغطاء لبناء أسلحة ذرية، وهي نية نفتها طهران مرارًا، بينما تواصل مخزونات إيران من اليورانيوم عالي التخصيب ارتفاعها، ويمكن رفع نسبة نقائها سريعًا إلى 90%، وهي الدرجة المستخدمة عادةً في تصنيع الأسلحة النووية، إذا ما قررت قيادة الجمهورية الإسلامية المضي في ذلك.. ومع ذلك، يتعيّن على إيران أن تتقن عملية تحويل الوقود النووي إلى سلاح، حتى تتمكن من إنتاج جهاز فعّال يمكنه إصابة أهداف بعيدة، إلا أن العقوبات والعزلة السياسية، قيدت قدرة إيران في الحصول على التكنولوجيا العسكرية الأجنبية، مما دفعها إلى تطوير أسلحتها محليًا.. وتعتمد إيران في سلاحها الجوي على طائرات قتالية قديمة، تعود إلى ما قبل ثورة 1979.. تأمل إيران في تحديث قدراتها العسكرية من خلال تعزيز تعاونها مع روسيا، التي ووافقت على بيع مقاتلات SU-35 لطهران، لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الطائرات قد تم تسليمها.
ورغم تخلفها التكنولوجي، يُعتقد أن الجيش الإيراني يمتلك مخزونًا كبيرًا من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة الرخيصة، التي استخدمها في هجماتها ضد إسرائيل عام 2024.. كما تبيّن لإيران من تلك الهجمات، فإن اختراق منظومة الدفاعات الجوية الإسرائيلية المتطورة، يشكّل تحديًا بالغ الصعوبة، إذ ينبغي أولًا تجاوز مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي، ثم تواجه إيران أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، والتي، إلى جانب القوات الأمريكية والحليفة الأخرى في المنطقة، اعترضت 99% من أكثر من ثلاثمائة صاروخ وطائرة مسيّرة، أطلقتها إيران خلال هجوم أبريل 2024، بحسب الجيش الإسرائيلي.. تشمل ترسانة إيران الدفاعية، أنظمة صواريخ أرض ـ جو من طراز S-300 الروسية لمواجهة الطائرات وصواريخ كروز، إضافة إلى منظومة (آرمان) محلية الصنع المضادة للصواريخ الباليستية.. لكن هذه المنظومات الإيرانية لم تُختبر ميدانيًا بنفس الدرجة التي اختُبرت بها الدفاعات الإسرائيلية، ما يعكس تفضيل إيران لأسلوب الحرب غير المتكافئة، الذي يمكّنها من فرض تأثير أكبر بدلًا من خوض مواجهات مباشرة.
تمتلك كل من إسرائيل وإيران قدرات متقدمة في مجال الحرب الإليكترونية.. فقد تسبّب برنامج تخريبي يُعرف باسم (ستاكسنت)، قبل أكثر من عقد، في تعطيل عمليات منشأة إيرانية لتخصيب اليورانيوم، في هجوم يُرجَّح أن يكون ثمرة تعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل.. كما أن إيران قادرة على تنفيذ (مجموعة من العمليات السيبرانية، بما في ذلك حملات التأثير المعلوماتي، وصولًا إلى هجمات مدمرة تستهدف شبكات حكومية وتجارية حول العالم)، حسب تقييم صادر عن وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية العام الماضي.. ومن بين الهجمات الإليكترونية التي شنتها إيران، محاولة اختراق استهدفت تعطيل الحواسيب وتدفق المياه في منطقتين بإسرائيل، بحسب ما أفاد به مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
ومع ذلك، حذر مسئولون في مجال الاستخبارات، من أن الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية، قد تؤدي فقط إلى تأخير وليس القضاء التام على قدرة إيران لتجميع التكنولوجيا اللازمة لصناعة سلاح نووي.. فالمنشآت النووية الإيرانية كثيرة وموزعة في أنحاء البلاد.. وقد جرى خلال السنوات الأخيرة نقل الأصول الأهم منها إلى مواقع تحت الأرض، في محاولة لحمايتها من أي هجمات محتملة.. لكن ذلك لم يمنع تنفيذ عمليات تخريبية صغيرة تُنسب بشكل متكرر إلى إسرائيل.. ويُعتقد على نطاق واسع، أن إسرائيل تقف وراء اغتيال خمسة علماء نوويين إيرانيين في طهران منذ عام 2010، بالإضافة إلى الستة الذيت قتلوا في الهجوم الأخير.. كما ألقت إيران باللوم على إسرائيل في انفجار وقع في منشأة تخصيب نووي رئيسية عام 2021.
تقول إسرائيل إنها دمّرت معظم أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وجزءُا كبيرًا من قدرة طهران على تصنيع الصواريخ، خلال تبادل الضربات بين الجانبين في أكتوبر 2024، مما قد يجعل شن هجوم ناجح أسهل بالنسبة لها.. إلا أن مسئول عسكري رفيع، مسئول عن حماية البرنامج النووي الإيراني، قال في أبريل 2024، إن بلاده سترد بالمثل، إذا استهدفت إسرائيل منشآتها.. وذهب إلى أبعد من ذلك، حين أشار إلى أن مجرد التهديد، قد يدفع إيران لإعادة النظر في سياساتها تجاه ما تصفه بأنه برنامج نووي سلمي.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.