الجيل المغيب: أزمة تفشي الكفاءات واحتكار الإدارة في المؤسسات

رغم أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان – ولا يزال – الأكثر حرصًا على تمكين الشباب والكفاءات المبدعة في مواقع المسؤولية، بإرادة سياسية واضحة وصادقة، بدءًا من دعوته المستمرة لتأهيلهم من خلال الأكاديميات الوطنية، ومرورًا باختيار شباب في مناصب المحافظين والوزراء، إلا أن مؤسسات الدولة الأخرى، بكل أسف، لا تزال تمثل واحة مقاومة لهذا التوجه الوطني العظيم، وكأن بعض القيادات الإدارية والتنفيذية تضع على بوابات مؤسساتها لافتة مكتوبًا عليها: “الكبار فقط”!وفي الوقت الذي تفتح فيه الدولة العليا المجال أمام الكفاءات الخبيرة الواعدة ، نجد أن الكثير من المؤسسات والهيئات العامة ومن بينها الجهات الحكومية والجامعات والشركات وغيرهاتخضع لمنطق “الإدارة بالمصلحة”، لا بالكفاءة، حيث تُمنع الكفاءات الوسطى من التصعيد، لا لقصور في إمكاناتها، بل فقط لأن من في الأعلى يخشى أن يُزيحهم الأكفأ من مواقعهم، وقد أثبتت تقارير رقابية ودراسات بحثية، وشهادات متعددة من قطاعات مختلفة، أن عددًا غير قليل من أصحاب الكفاءات لا يصل إلى موقع المسؤولية الحقيقية، وإذا حدث ذلك بالصدفة، يكون قبل نهاية الخدمة بشهور قليلة، في مشهد أقرب إلى العبث الإداري المُمنهج.وبلا شك، فإن هذا التوجه يعتبر أحد أشكال الفساد الناعم، التي تبني قلاعا من الأبواب الموصدة وتغلق باب التطور أمام مؤسساتنا، ولهذه الممارسات أسباب ومحاور متعددة، منها على سبيل المثال الاحتكار الإداري، حيث يتعمد بعض المسؤولين إسناد أكثر من منصب أو مهمة لأنفسهم أو لمجموعة محددة من المحيطين بهم، في مخالفة صريحة للقانون ولمبدأ التفرغ الذي أقرته فتوى مجلس الدولة (إدارة الفتوى والتشريع)، والذي يؤكد ضرورة الفصل بين الاختصاصات، وعدم الجمع بين مواقع قيادية متعددة داخل المؤسسة الواحدة.ثم يأتي بعد ذلك غياب آليات الشفافية والتقييم الدوري، إذ لا توجد في أغلب المؤسسات آلية علمية معتمدة لتقييم الأداء القيادي، بما يسمح بالتجديد أو الإعفاء بناءً على نتائج واضحة، وبعد ذلك تكمن إشكالية أخرى في الخوف من التصعيد، فالعقلية القديمة تخشى من تصعيد الكفاءات، وقد يثبتون جدارتهم فيُحرجون “القيادات الكرتونية” في مواقعها، فتُغلق أمامهم الأبواب عن عمد، وهناك أيضا هذا المرض المسيطر على أجهزتنا الإدارية ومن أعراضه ضعف الوعي المؤسسي بالتخطيط البشري،إذ لا يُنظر إلى رأس المال البشري باعتباره أداة تنمية، بل يُعامل على أنه تهديد إداري.وخطورة استمرار هذا الوضع يظهر في أن الإبقاء على هذه الحالة من التجميد الإداري يُعد بمثابة قتل بطيء للكوادر الشابةوالكفاءات، وهو نزيف وطني صامت، فالدولة التي لا تُصعِّد كفاءاتها الشابة تموت تدريجيًا من الداخل، وقد كشفت تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة أن الدول التي تتمكن من إدماج كفاءاتها الشابة في مواقع اتخاذ القرار تحقق معدلات نمو أسرع واستقرارًا مؤسسيًا أكبر بنسبة تزيد على 37% مقارنة بنظيراتها التي تفتقر لذلك.والأخطر من ذلك أن الظلم الإداري قد يدفع الكفاءات إما إلى الهجرة خارج الوطن، أو إلى التبلد الوظيفي والانسحاب من الفاعلية المؤسسية، أو إلى السقوط في بؤر الغضب الصامت، وكلها كوارث استراتيجية.وحين تبقى القيادة العليا في المؤسسة بموجب قرار تعيين يمتد لأربع أو خمس سنوات، وتتضخم صلاحياتها بامتلاكها لعدة مواقع قيادية في آنٍ واحد – مثل كونها رئيس مجلس الإدارة، ومشرفًا على أحد القطاعات، ومسؤولًا عن الوحدات ذات الطابع الخاص، ورئيسًا للجنة اختيار القيادات، فضلًا عن ترؤس لجان أخرى – فإننا نكون أمام خلل بنيوي خطير في الإدارة العامة،فهذا الجمع المفرط للسلطات يُفرغ مبدأ الفصل بين الاختصاصات من مضمونه، ويخلق بيئة مغلقة تُحتكر فيها سلطة الإشراف والتنفيذ والتقييم في يد واحدة، فيصبح القرار الإداري أداة شخصية لا مؤسسية، وتُغلق أمام الكفاءات والكوادر الشابة أبواب التصعيد والنمو المهني، لا لقصور في قدراتهم، بل لأنهم يُقيَّمون بمنطق المنافسة لا الكفاءة.ومن الناحية القانونية، فإن هذا الوضع يؤدي إلى تضارب المصالح، ويمنع التقييم الموضوعي للأداء، كما أن استمرار شاغل المنصب في موقعه دون تقييم مستقل أو آلية تجديد قائمة على الأداء يتعارض مع مبدأ التداول الإداري، ويخلق ما يشبه “الإقطاع الوظيفي” داخل المؤسسات، وهو ما يقوّض قواعد الحوكمة والعدالة المؤسسية، ويحرم الدولة من حقها الأصيل في استثمار قدرات أبنائها.لقد آن الأوان لتلتفت المؤسسات التشريعية والجهات الرقابية لمواجهة هذه الكارثة من خلال وضع الحلول التي تقوم على التشخيص العلمي المنضبط والجاد للأزمة ووضع خطوات تصحيحية وعملية لمواجهتها، والتي أقترح لها ما يلي:أولا: تشريع قانون وطني لإدارة المواهب وتصعيد القيادات، يتضمن تحديد مدد المسؤوليات القيادية (لا تتجاوز سنتين)، مع التقييم السنوي الموضوعي للقيادات، والتجديد بناءً على الكفاءة فقط، ومنع الجمع بين أكثر من منصب تنفيذي داخل الجهة الواحدة.ثانيا: تفعيل ما أقرته الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة بشأن عدم مشروعية الجمع بين مهام متعددة تتطلب التفرغ، ومحاسبة من يخالفون ذلك.ثالثا: تشكيل هيئة وطنية مستقلة أو تكليف هيئة رقابية قائمة (مثل الرقابة الإدارية أو التنظيم والإدارة) بمتابعة ملف تصعيد القيادات والتأكد من عدالة الإجراءات.رابعا: إتاحة منصات للتظلم الإداري تُمكن الكفاءات من رفع الظلم الواقع عليها دون خوف من الانتقام الإداري.خامسا: ربط الترقي الوظيفي بنتائج حقيقية وقابلة للقياس، بدلًا من اعتبارات السن أو العلاقات أو الولاء الشخصي.إن تمكين الكفاءات من القيادة ليس منحة أو تفضُّلًا من أحد بل حق واستحقاق وطني تفرضه معطيات العصر، ومقتضيات التنمية، وتحديات المستقبل، وإذا لم يتم نقل هذا التوجه من مستوى الدولة العليا إلى القاعدة التنفيذية في المؤسسات والهيئات، سنظل ندور في حلقة مفرغة من الفشل الإداري، وخسارة الفرص، ونزيف الكفاءات.لقد جاء الوقت لنضع تشريعات تردع الاحتكار الإداري، وتفتح النوافذ للضوء أن يدخل… فالمؤسسات الهامة لا يمكن أن تُدار إلى الأبد بعقلية “المخزن”!