عندما تجد نفسك في عزلة مع أفكارك

عندما تجد نفسك في عزلة مع أفكارك

 كانت الحياة لدى نجيب محفوظ مادة للأدب، وكان الأدب لدى يوسف إدريس مادة للحياة. هما موقفان مختلفان خلق كل منهما أدبًا عظيمًا بطريقة مختلفة. وقد أتاحت لى الظروف أن ألتقى الأديبين الكبيرين، وكان حبى لهما غامرًا. لكن صلة ما أعمق ربطتنى بيوسف إدريس، وبأعماله، وبانخراطه فى الصراع الاجتماعى لصالح التطور والعدل. والآن وأنا أعيد قراءة أعمال إدريس أتوقف عند مسرحيته الجميلة «لحظة حرجة»، وأقول لنفسى فى حياة كل منا لحظة حرجة يتوقف فيها عند تقاطع طرق صغيرة أو كبيرة يسأل نفسه: أى طريق أتخذ؟على سبيل المثال حين تكون ثمة محفظة مكتظة بالنقود ملقاة قرب شخص جريح فى شارع، فإن الضمير الجمعى للملتفين حول المصاب ينادى: «دعونا نجمع أغراض هذا المسكين لنعيدها لأهله». هذا الضمير يمنعك من التقاط المحفظة ودسها فى جيبك. أما اللحظة الحرجة فتبدأ حين تكون بمفردك أمام النقود، دون رقيب أو شهود. من ثم تبدأ فى التفكير «هل هناك ضمان أن المحفظة ستعود لأهل المصاب؟ ألا يحتمل أن العناية الإلهية وضعت هذه النقود فى طريقى لسد حاجاتى؟ ألا يحتمل أن يكون الرجل مقطوعًا من شجرة فلمن ستعود النقود؟ للحكومة؟ ألست أنا أولى بها؟». هذه اللحظات الصغيرة الحرجة ليست قليلة فى حياتنا، حينما لا يرانا أحد، ويكون علينا أن نقرر: مَن نكون؟ فى مسرحية «اللحظة الحرجة» للعبقرى يوسف إدريس، تغلق أسرة باب حجرة على ابنها الشاب لكى تمنعه من المخاطرة بحياته فى الكفاح المسلح ضد الإنجليز. لكن الباب لم يكن مغلقًا بإحكام. عمليًا كان بوسع الشاب أن يتذرع أمام نفسه بأن الباب مغلق، ومن ثم فإنه لا يستطيع مغادرة البيت لمشاركة الآخرين الدفاع عن الوطن. أيضًا كان بوسع الشاب- لو أراد- أن يدفع الباب بكتفه دفعة صغيرة فينفتح. لم يكن أحد يراقبه. كان بوسعه أن يعتبر الباب حاجزًا أو أن يتجاوزه، وحده كان يعلم أن الاحتمالين مفتوحان أمامه، وأن عليه أن يقرر وحده دون رقيب، أى طريق سيتخذ فى اللحظة الحرجة. عند يوسف إدريس ترتفع اللحظة الحرجة مكثفة وحادة إلى مستوى علاقة الفرد بالوطن، لكن الأمر فى الحياة يختلف قليلًا أو كثيرًا، فاللحظات الحرجة لا تمر بنا بهذه الصورة الحادة والدرامية. اللحظات الحرجة فى حياتنا اليومية تكون رمادية، وغير ملحوظة، ودون أن يبدو أنها ستحدد الكثير فى مستقبلنا. لكن كما يقولون يسكن الشيطان فى التفاصيل. تفاصيل هذه اللحظات تصنعنا، والطريق الذى نختاره كل مرة يعبّد للإنسان طريقًا كبيرًا. وعندما رفض المفكر أستاذ الرياضيات الدكتور عبدالعظيم أنيس أن يقوم بإعطاء ابنة الرئيس أنور السادات دروسًا خاصة فى بيت الرئيس، كان يتخذ قراره الصحيح بمفرده دون شهود، لنفسه، لأنه يعلم تمام العلم أن الإنسان لا يربح شيئًا إذا كسب العالم وخسر نفسه. اللحظات الصغيرة تصنعنا، وتخلق الطريق والإنسان، والمغنى والأغنية، وخطورة هذه اللحظات أنها تبدو فى حينها بلا بطولة، وبلا خطورة، مع أنها تشكل وستشكل صلب وجودنا كله. اتخذ قرارك حين تكون وحدك، وحين يتعلق الأمر بمحفظة نقود صغيرة أو بالوطن.