تسع مستويات من الضياع

تسع مستويات من الضياع

ابتعدت والرعب يتملك جسدها، كمن شهدت للتو شبحًا مشوّه الملامح، ينقض عليها.. شعرت، بأنها بحاجة لأن تصرخ، بيد أن صوتها لا ينطلق ليفصح عن خوفها المختنق فى حنجرتها، ولا يقوى جسدها المنهك بالحزن، على أن يأتى بشىء، يخفف عنها وطأة المشهد، الذى أجبرها مخرج هذه الكوميديا على أن تكون جزءًا منه.«الرعب كفيل بأن يجثم على الصدر، فيخنق الأنفاس، ويكتم الصراخ.. ويحيل المرء جثة هامدة، وهو ما زال على قيد الحياة، يتنفس، ويتحرك، ويمارس موته فى كل لحظة».كل هذا وجبار، متسمر فى مكانه لم يتحرك، ولم يتفوه بكلمة واحدة.. كان يراقب بصمت، كمن ينتظر الخطوة التالية، إلا أن إحساسه بالدوار، لم يفارق رأسه المزدحم بالذكريات، وعلامات الاستفهام، والخيالات التى بدأت رائحتها تنز من مسامات جسده، وأخاديد وجهه، وتتسامى من ثنايا نفسه، الغارقة فى تيه، لا قرار له، وفى ظلمة، لا انبلاج لها. يدرك تمامًا مقدار الشلل الذى حل بأوصاله، ومدى العجز الذى هو عليه. «ترى.. ما هى فاعلة بى؟!».وكمن تولدت عنده للتو حاسة أخرى، وبات بإمكانه أن يقرأ دواخل الآخرين، وكشف الحجب عما يفكرون به.. التفتت صوبه.- لا تخف، فلم آت لأنتقم.. فالانتقام لا يليق بى، ولا بك.. مَن ينتقم لا بد أن يتخلى عن ذاته، ويتخلص من إنسانيته، وأنا لست على استعداد لأن أتخلى عن الشىء الوحيد الذى أملكه.. ومن ينتقم، لا بد له أن ينتقم ممن يستحق هذا الشرف، وأنت لست منهم بالتأكيد.- سأسألك مرة أخرى: لِمَ تقولين هذا؟!- كم أنت غريب؟! ثم من أعطاك الحق بالسؤال.. أنت الوحيد فى هذا الوجود الغبى لا يحق له أن يسأل.. أنت تُسأل فقط.. وبالمناسبة، أنا لم آتِ إلى هنا لأسمع منك أى جواب.. فقط أتيت، لأننى شعرت بأن ثمة إنسانًا قادته قدماه إلى نهايته المحتومة، بأن يركن هنا منسيًا فى هذه الزاوية المظلمة من الكون.. فى هذا الثقب الأسود الذى كان بإمكانك أن تجعل منه بابًا يفضى إلى جنة لا يحدها حد، بيد أنك اخترت نهايتك بنفسك.. لذا أنا أطمئنك ثانية.. لم آتِ لأفعل بك شيئًا.. بل على العكس، مَن يفعل بك سوءًا فإنه ينزل بك الرحمة، وأنت لا تستحقها.. ولتعلم أن مجرد وجودى هنا أمام ناظريك، يكفى لأن يُعّجل فى نهايتك البائسة.. فأنا ماضيك الذى لن يفارقك مهما حاولت أن تهرب منه، وتلوذ بالإنكار، وتصنع البلاهة لتتخلص منه، فهو بمثابة جلدك الذى سيتعفن ساعة، حينما تتعفن روحك، وتمضى بك إلى الجحيم.- كل ما تتحدثين عنه، محض توهمات.- هه.. بل أنت الواهم، إذ تعتقد بأن إنكارك سيفيدك بشىء.. اعلم أن الحقائق لا يمحوها الإنكار، ولا يشتتها التحذلق.. فأنت حقيقة مرة، وما فعلته حقيقة قبيحة، وأنا حقيقة أيضًا، إلا أننى تلك الحقيقة التى أتت لتذكرك بحقيقتك، وما أنت عليه، وما ستكون عليه قريبًا، حتى تصبح أنت وتاريخك القذر، الملبد بالظلم والطغيان، مجرد ذكرى مزعجة للآخرين، أما بالنسبة لى، فستبقى ذلك القدر السيئ الذى حكم وجودى بلعنة أكبر من عمرى، وأوسع من مساحة احتمالى.- أنتِ بلا تربية!!- هه.. معك حق، فمن ربانى؟! أنا فتحت عينى على دنياك القذرة، فوجدتك تطارد أمى فى الشوارع، كى تذيقها ألوان العذاب. لم يمر علينا مساء، إلا وكان فيه عشاؤنا من نصيب القطط، حينما كنت ترفعه من أمامنا، وترميه فى الشارع، وتتركنا نبيت جياعًا، وبعد أن ترمى العشاء كنت ترمى بفراشنا فى باحة الدار، وتغلق باب غرفتك على نفسك، لتتركنا ننام قرب حيوانات الإسطبل، نعانى الجوع والخوف معًا، ولم تكتف بذلك فحسب، بل كنت تتعمد أن تسكب على أجسادنا الغافية بالبؤس الماء، فنفز كما المجانين. فى كل صباح، كنت توقظنا برفسة من قدمك، نقفز على إثرها مذعورين. كانت والدتى تصحو قبلك كل يوم لتوقظنا كيلا تأتى أنت وتدهمنا ببطشك.. أنتَ لم تعاملنا كما يفعل سائر البشر. كنت دائمًا تخاطبنا، وتأمرنا، كما لو أننا حشرات قذرة تتطفل على حياتك. نحن خرجنا من صلبك، لكننا لم نشعر يومًا بأننا ننتمى إليك. لم تبتسم مرة بوجه أحد منا، ولم تعاملنا كبشر ولو لمرة واحدة.. أتذكر قميصك الملطخ بدمائك، حين كنت تخرجه كل ليلة لترينا إياه، وتحكى لنا بمرارة كيف ضربك أخوك دون رحمة، حتى أدمى وجهك، وما زلت تحتفظ به حتى الآن فى هذه الغرفة اللعينة، تتخذه عذرًا لتبرر لنفسك كل هذا البطش، والجبروت.. تعرف جيدًا ما يؤلمك، وتعرف كيف تدارى مشاعرك، بل تبدع فى وصف مظلوميتك.. لكن ماذا عنا نحن؟ ماذا عن الجرح الذى ينزف بداخل كل واحد منا ولن يندمل أبدًا؟ أنت تسببت بخراب أسرة كاملة، لأجل أن تثأر لكرامتك التى هدرت يومًا، حتى خسرت نفسك، وحكمت علينا بالموت، ونحن أحياء، والآن تعتقد أن لك حق الأبوة علينا!! فمن أعطاك هذا الحق؟! أم أنك تعتقد بأن الأبوة تكتسب بمجرد النسب؟! حتى الله الذى أوصى ببر الوالدين، ينكرها عليك أنت.تعالى نواح الحمامة، بات يخترق جدران المنزل، وينفذ من مسامات الأشياء.. استحال إلى صراخ، يصم أذان الوجود، ويصيب الكلمات بالخرس. التفتت مرتجى صوب الحديقة، لتجد أن الزهور التى لم تدس بعد، تصارع الذبول، وتتشبث ببقايا أمل، يبقيها على قيد الخلاص. سمعتها تغنى لأخواتها الذابلات، كمن ينفخ الروح فيمن أدركه الموت. أجالت النظر فى المكان، فإذا بموجة ضباب تلف ملامحه، وتعتصر أشياءه، بقبضة من دخان أسود. تراجعت بخطوات وجلة إلى الخلف. استمرت بالتراجع، والدخان يتضاعف، ويلتهم كل شىء، فقط ذلك الجانب من الحديقة، عادت له الحياة، وتفتقت أزهاره من جديد، وتعالى غناؤها الذى أسكت نواح الحمامة، وأخرس صراخ الألم.مقطع من رواية: تسع درجات على مقياس التيه