العلم كوسيلة للإيمان وليس كعدو: أسباب مخاوف رجال الدين من الإلحاد

العلم كوسيلة للإيمان وليس كعدو: أسباب مخاوف رجال الدين من الإلحاد

في هذا العالم الذي لم يعد يعترف إلا بلغة الأرقام، ولا يحترم إلا من يمتلك المعرفة، صار العلم هو القاطرة الوحيدة التي تقود الأمم إلى القوة والتأثير وصناعة الفارق، ولم تعد مكانة الدول تُقاس بما تملكه من ثروات في باطن الأرض أو فوقها، بل بما تنتجه من معرفة، وما تزرعه في عقول أبنائها من أدوات فهم وتحليل واكتشاف، ومن اللافت أن معظم الدول التي تحاربنا أو تتربص بمقدّراتنا، لا تفعل ذلك بالسلاح فقط، بل بإضعافنا علميًا، وتشويه علاقتنا مع أدوات التفكير والتجريب والبحث، حتى أضحينا في بعض المساحات نُجرّم السؤال، ونخشى المعرفة.لقد حلّ العلم أعقد مشكلات الإنسان، فقد روّض الأمراض، وكشف أسرار الكون، وفتح آفاق الفضاء، وفكّ شفرات الخلية، ومع ذلك، نحن – في مجتمعاتنا – لا نزال نرتاب فيه، أو نحصره في حدود المختبر، ولا نسمح له أن يدخل ساحات التربية والدعوة والدين.وهذا الانفصال المصطنع بين العلم والدين، لم يكن أصلًا من أصول حضارتنا، بل جاء نتيجة تكلّس فكري ونفور غير مبرر من أدوات العصر، بينما كشفت تحديات العصر أن الداعية في زمننا لا يمكن أن يؤدي رسالته إذا لم يكن مٌطلعًا على العلوم الحديثة، وقد أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي صراحةً في خطاباته إلى ضرورة أن يكون الداعية عالمًا بدينه، مطلعًا على واقعه، مدركًا لتخصصات الحياة، حتى يستطيع أن يربط بين النص الديني والسياق المعاصر، فلا ينفّر الناس باسم الدين، ولا يجعل الدين خصمًا للعلم.ولكن المفارقة المؤلمة أننا، بدلًا من أن نعتمد العلم ونستثمره، نجد من يقاومه من داخل المؤسسات الدينية بدعوى الحفاظ على “الثوابت”، أو يواجه تعنت قوي منها تحت لافتة “الإيمان لا يحتاج إلى أدلة”، وبين هذا وذاك، تُترك الأجيال الجديدة نهبًا لخطابات الإلحاد أو التطرف، وكلاهما يجد أرضًا خصبة في غياب المعرفة.السؤال المركزي الذي يطرحه هذا المقال ليس عن وجود الله – فتلك مسألة تستقر في القلب والعقل معًا – بل عن لماذا يلحد الناس؟ هل فقدوا الدليل، أم فقدوا الثقة فيمن يحملونه؟ وهل العلم طريق إلى الإيمان، أم نقيض له؟ وهل يخشاه رجال الدين لأنه يهدد سلطتهم؟ ولماذا يتجاهله دعاة الإلحاد رغم أنه يهدم كثيرًا من حججهم؟اقرأ باسم ربك الذي خلق، لم تكن مجرد أول كلمة في الوحي، بل كانت أول حجر يُلقى في بناء حضارة تنشد الإيمان عبر العقل، وتبحث عن الله في صمت الكون، لا في ضجيج السلطان، ومع ذلك، يبدو أن العلاقة بين العلم والدين في زماننا قد شُوّهت على الجانبين، فهناك طرفٌ يراه تهديدًا لسلطته، وآخر يتخذه حائطًا لهدم الإيمان، فكيف انقلبت المعادلة؟ ومن الذي حوّل “اقرأ” إلى خصمٍ للسماء؟في كثير من حالات الإلحاد، لا يكون السبب نقصًا في الدلالات العلمية، بل نقمة على السلطة الدينية، شاب يرى تناقضًا بين ما يُقال على المنبر وما يراه في الواقع، أو عقل يبحث عن إجابات فيُقابل بالزجر، أو فتاة تسأل فيُقال لها “حرام عليكِ… لا تسألي في الغيبيات” هنا لا يُرفض الله، بل تُرفض صورته المشوّهة التي رسمها البعض.ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن بعض الملحدين الحقيقيين – لا الغاضبين – يطلبون الحجة، فيجدون من يصدّهم باسم “التسليم”، ويستنجدون بالعقل، فيُرمى عليهم لواء “الزندقة”.هنا تكمن أهمية العلم، فهو اللغة المشتركة التي يخشاها الجميع، وهو اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم كله، مهما اختلفت معتقداته وأجناسه. فمعادلة في الفيزياء لا تعرف مسلمًا ولا مسيحيًا ولا ملحدًا، وجين في الـ ـDNA لا يخضع لمذهب أو طائفة، ولهذا، فإن العلم كان دومًا هو القاضي الأعلى في القضايا الكبرى، حين يتطاول التطرف باسم الدين، يردّه العلم، وحين يدّعي الإلحاد احتكار العقل، يكشفه العلم أيضًا.لكن القصور ليس في العلم، بل في غياب توظيفه الأخلاقي والإيماني، لم يعد العلم يُستثمر في تقوية البنية الإيمانية عند الشباب، بل صار حكرًا على المختبرات والصراعات التكنولوجية، والأسوأ… أن كثيرًا من علماء الدين يخشون إدخال الدلائل العلمية في خطابهم، خشية أن يُتهموا بتجاوز “سلطتهم” المعرفية أو التفريط في “نصوصهم”.بعض رجال الدين يعتبر أن الاستشهاد بالدليل العلمي في إثبات وجود الله تغول على اختصاصه، وكأن الإيمان حكرٌ على تفسيرهم فقط، لا مدخل له من العقل والفيزياء والفلك، وهذا هو الفراغ الذي تسلّل منه الإلحاد، لا كحالة عقلية ناضجة، بل كاحتجاج مراهق على سلطة متخشبة.أما على الجانب الآخر، فبعض دعاة الإلحاد المعاصرين يرفضون الاعتراف بأن كثيرًا من الاكتشافات العلمية الكبرى – خاصة في الفيزياء النظرية وعلوم الحياة – تشير إلى نظام بالغ التعقيد، لا يمكن أن يكون ابن الصدفة، ومن نظرية “الضبط الدقيق” للكون، إلى المعلومات الوراثية المعقدة في الخلية الواحدة، تتراكم الإشارات – لا إلى جواب نهائي – بل إلى أن الباب لم يُغلق، وأن العقل ليس في صراع مع الغيب.إننا يجب أن نَعّي أن الإيمان ليس عدوًا للعقل… ولا وصيًا عليه، وأن التدين الحق لا يخشى الأسئلة، والإيمان النقي لا يهرب من المجهر، فالله الذي أمرنا بـ  “اقرأ”، هو نفسه من قال: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”، و”سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.إن المعركة ليست بين الإيمان والعلم، بل بين الدين حين يحتكره المتجمدون، والعلم حين يحتكره المتكبرون، وكلما اقترب أحدهما من جوهره، اقترب من الآخر، ومع ذلك لا يجب أن نغفل أن كثير من العلماء قد هزموا الإلحاد، ولا يمكن نسيان أن عددًا من أبرز العلماء في العالم لم يروا في العلم تهديدًا للإيمان، بل تأكيدًا له، والفيزيائي الشهير “ماكس بلانك” كان يقول: “الإيمان هو الأساس الحقيقي لكل معرفة”، أما “آينشتاين”، فرغم أنه لم يكن متدينًا تقليديًا، إلا أنه قال: “كل من يتعمق في العلم لا بد أن يدرك أن وراء قوانين الطبيعة عقلًا ساميًا”.وفي زمننا، اعترف “أنتوني فلو”، أحد أشهر الفلاسفة الملحدين، بإيمانه بوجود خالق في أواخر حياته، بعدما درس تعقيد الشيفرة الوراثية DNA. وقال: “لقد وجدت أن الدليل العلمي لا يترك مجالًا للصدفة”.ولطالما راودني سؤال ملحّ، لماذا لم تستفد جامعة الأزهر، وهي من أعرق المؤسسات الدينية والعلمية في العالم، من الثروة المعرفية الهائلة التي تملكها داخل جدرانها؟ فإلى جانب كلياتها الشرعية، تضم الجامعة كليات الطب والهندسة والعلوم والصيدلة وطب الأسنان والتمريض والتجارة والاقتصاد والإعلام، وكلها منصات علمية يُفترض أن تكون جسورًا للربط بين الدين والعلم، لكن الواقع المؤلم أن هذه الجامعة، التي تنتمي إلى عباءة الأزهر الشريف، لم تُنتج يومًا مشروعًا بحثيًا أو علميًا ممنهجًا يُقدِّم الدليل العلمي بلغة يفهمها الجميع – لا سيما المجتمعات الغربية أو الملحدة – على صدق الدين وحقائقه وأخلاقياته. إنني أتصور أن العلم هو المناصر الأول للحقائق الدينية، لأنه ليس خصمًا بل دليل الإثبات التطبيقي عليها، وهو اللغة التي ستبقى قائمة حتى قيام الساعة، ولن تسقط مهما اختلفت الأديان أو الحضارات، والعلم الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع الدين الصحيح، لأن كليهما من مصدر واحد، هو الله عز وجل. وغياب هذا الربط في الدراسات العليا بجامعة الأزهر يُعد – في رأيي – تقصيرًا جسيمًا في حق الدين، وتفريطًا في أداة فعالة لمواجهة الإلحاد علميًا، وأذكر أنني في أحد المؤتمرات الطبية الكبرى التي أقامتها الجامعة وكنت من المُكرَّمين فيها، ألقيت كلمة صريحة نبهت فيها إلى هذا الغياب، وطرحت ضرورة تأسيس مسار أكاديمي بحثي يربط بين المعارف الطبية والحقائق الدينية، ويخاطب العقول بلغة العصر… لكن، للأسف، لم يسمعني أحد.لقد آن الأوان أن نعيد بناء جسر “اقرأ”، لا كشعار بل كمشروع حضاري، وأن نحرر الدين من قبضة الجمود، ونُحرر العلم من التوظيف الإلحادي، فالله لا يُخشى عليه من المجهر، بل يُعرف عبره، والإلحاد لا ينتصر إلا حين يصمت العقل المؤمن، أو حين يتكلم الجهل باسم الله.