ابتعد عنّي بدمك، يا ابن أبي بكر.

حكيت لك أن المشهد الوحيد الذى ظهر فيه عبدالرحمن بن أبى بكر بعد إسلامه اقترن بوفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، حيث يشير بعض المؤرخين إلى أنه كان آخر من دخل عليه حين كانت روحه الكريمة تفيض إلى بارئها بين يدى السيدة عائشة- رضى الله عنها. تولى أبوبكر الصديق الخلافة، وبدأ عصره بمحاربة المرتدين، وكان أخطرهم مسيلمة الحنفى الذى ارتد عن الإسلام وادعى النبوة، وقد واجهه المسلمون فى معركة «اليمامة» الشهيرة، وفيها ظهر عبدالرحمن بن أبى بكر كمقاتل فى صفوف المسلمين لأول مرة فى تاريخه. يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «وقد شهد عبدالرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذى قتل محكم بن الطفيل صديق مسيلمة على باطله، كان محكم واقفًا فى ثلمة (فتحة أو فرجة) حائط، فرماه عبدالرحمن فسقط محكم فدخل المسلمون من الثلمة، فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه، وقد شهد فتح الشام، وكان معظمًا بين أهل الإسلام».وبعد وفاة أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- لم يظهر عبدالرحمن ولده فى أى من المشاهد خلال فترة حكم عمر بن الخطاب التى امتدت لأكثر من ١٠ سنوات. الظهور الوحيد فى عصر «عمر» جاء فى مشهد اغتياله على يد أبى لؤلؤة المجوسى. فبعد أن طعن أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب، سارع ابن الخليفة «عبيدالله بن عمر» إلى قاتل أبيه فطعنه، وطعن رجالًا آخرين، قيل إنهم تواطأوا مع أبى لؤلؤة، ومنهم جفينة والهرمزان، وقد ارتبط اسم «عبدالرحمن بن أبى بكر» بإقدام عبيدالله على قتل هؤلاء النفر وصراخه فيمن حوله قبل أن يقبض عليه سعد بن وقاص ويحبسه فى داره: والله لأقتلن رجالًا ممن شرك فى دم أبى، يعرض بالمهاجرين والأنصار. يقول «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ»: «وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبدالرحمن بن أبى بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأونى ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه فى وسطه، وهو الخنجر الذى ضرب به عمر، فقتلهم عبيدالله».وطيلة عصر عثمان لا تظهر أدوار ذات دلالة لعبدالرحمن بن أبى بكر، ولا يبدو موقفه من عثمان واضحًا سواء بالتأييد أو بالمعارضة، خلافًا لشقيقه الأصغر محمد بن أبى بكر الذى ظهر بين صفوف المتمردين على الخليفة، بل ويشير العديد من كتب التراث إلى أنه شارك فى قتله. وقد ولد محمد بن أبى بكر- كما يشير «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»- فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى حجة الوداع «سنة ١٠ هجرية»، وأمه أسماء بنت عميس، ولما احتضر الصديق أوصى بأن تغسله فغسلته، ثم لما انقضت عدتها تزوجها على فنشأ محمد بن أبى بكر فى حجره، فلما صارت إليه الخلافة استنابه على بلاد مصر، بعد قيس بن سعد بن عبادة. محمد بن أبى بكر ربيب على بن أبى طالب، وبالتالى كان من الطبيعى أن ينحاز إليه بشكل كامل، ويؤيد إمارته للمؤمنين كخليفة رابع لهم بعد مقتل عثمان- رضى الله عنه- على يده هو ومجموعة المتمردين. وظنى أن موقف عبدالرحمن بن أبى بكر من على بن أبى طالب كان متأرجحًا، فمرة كان يميل إلى رأى أخته من أمه «عائشة»- رضى الله عنها- فيؤيد المعسكر المتمرد ضد «على»، ومرة يميل إلى أخيه الأصغر- من أبيه- محمد بن أبى بكر فيميل إلى على، وتقديرى أنه ظل كذلك حتى حدثت واقعة التحكيم التى تمكن فيها عمرو بن العاص من خداع أبى موسى الأشعرى، إنها اللحظة التى اختل فيها الكثير من الأمور والموازين فى تاريخ هذه الأمة، اللحظة التى وصفها ابن عمر قائلًا: انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة! صار إلى رجل ما يبالى ما صنع «يقصد عمرو بن العاص» وإلى آخر ضعيف «يقصد أبا موسى الأشعرى». وقال عبدالرحمن بن أبى بكر: لو مات الأشعرى قبل هذا اليوم لكان خيرًا له. واضح أن عبدالرحمن بن أبى بكر حسم أمره بعد واقعة التحكيم، وقرر الانصمام لصفوف معاوية، وانخرط فى جيش الشام الذى سار إلى مصر تحت قيادة عمرو بن العاص لانتزاعها من يد محمد بن أبى بكر. أمر «معاوية» عمرًا بالاستعداد للتحرك وبعث معه ستة آلاف رجل. وسار عمرو فنزل أدانى أرض مصر، فاجتمعت إليه العثمانية، من المطالبين بالثأر لعثمان والمتمردين على محمد بن أبى بكر الوالى الذى عينه على بن أبى طالب، فأقام بهم وكتب إلى محمد بن أبى بكر: أما بعد، فتَنَحَّ عنى بدمك يا ابن أبى بكر، فإنى لا أحب أن يصيبك منى ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مسلموك، فاخرج منها إنى لك من الناصحين، فأرسل محمد إلى على يخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وأنه رأى التثاقل ممن عنده ويستمده. فكتب إليه على يأمره بأن يضم شيعته إليه ويعده إنفاذ الجيوش إليه، ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله. وخرج محمد بن أبى بكر لقتال عمرو فى ألفين من جنوده.هكذا وقف ابنا أبى بكر الصديق فى مواجهة بعضهما البعض، الشقيق الأكبر عبدالرحمن فى جيش عمرو بن العاص، الذى يريد انتزاع مصر من على بن أبى طالب، فى مواجهة الشقيق الأصغر «محمد» الذى يقود الجيش العلوى المدافع عن تبعية البلاد للخليفة الشرعى.