إسرائيل وإيران: نظرة داخلية في ظل الصراع بينهما

إسرائيل وإيران: نظرة داخلية في ظل الصراع بينهما

شنّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا على إيران في ساعة مبكرة من صباح الثالث عشر من يونيو الحالي، مستهدفةً أهدافًا في جميع أنحاء البلاد، في عملية واسعة النطاق ومتواصلة تُركّز على البرنامج العسكري والنووي الإيراني، وطالت مواقع نفطية ومطارات وأهدافُا مدنية.. ومع أنه لم يتضح بعد حجم الأضرار الكاملة، مع استمرار ظهور تفاصيل العملية الإسرائيلية المفاجئة، إلا أن وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية أكدت مقتل عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين، من بينهم الجنرال محمد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة، والجنرال حسين سلامي، قائد الحرس الثوري الإسلامي.. كما قُتل الجنرال غلام علي رشيد، نائب القائد العام للقوات المسلحة، والجنرال أمير علي حاجي زاده، قائد وحدة الصواريخ الباليستية في الحرس الثوري الإسلامي.
ضربةٌ موجعة، قضت على عقولٍ قادت استراتيجية إيران على مدار العشرين عامًا الماضية.. من نواحٍ عديدة، تُعدّ خسارة قائد القوات الجوية الفضائية، حاجي زاده، الضربة الأكبر، الذي كان، حتى أكثر من القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، مهندس الاستراتيجية العسكرية الإيرانية وأهم مفكريها العسكريين حتى العام الماضي.. لقد أنشأ برنامجًا للصواريخ والطائرات المسيرة، جعل إيران دولةً يصعب التعامل معها، وجعلها مُصدّرةً للأسلحة ـ وخصوصًا لروسيا ـ والأهم من ذلك كله، كان الجنرال المُستدعى للرد على أي هجمات معادية ضد إيران.. في هذه اللحظة، عندما تعرّضت المواقع الاستراتيجية والنووية الإيرانية للقصف أو التدمير، غاب صوت حاجي زاده تمامًا.
في النظام الإيراني، يرى أفشون أوستوفار، أستاذ شئون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية الأمريكية، وخبير الشئون العسكرية الإيرانية، ومؤلف كتابي (حروب الطموح: الولايات المتحدة، وإيران، والصراع على الشرق الأوسط) و(طليعة الإمام: الدين، والسياسة، والحرس الثوري الإيراني)، أنه يتم الاعتماد على الشخصيات البارزة في توجيه السياسات.. وتُعدّ الشخصيات مهمة حقًا، لأن الناس يبقون في مناصبهم لفترات أطول.. ولأن إيران نظام سلطوي، فإن العلاقات التي تربط كبار القادة بالمرشد الأعلى نفسه، هي ما يُشكّل ويُحرّك عملية صنع القرار في إيران، إذ يعتمد المرشد الأعلى الإيراني على هذه العقول المدبرة، ليس مجازيًا فحسب، بل حرفيًا.. فهم يُقدّمون له النصائح، وهو يثق بهم لتنفيذ ما يقترحونه عليه.. وبهذا المعنى، لا يقتصر الأمر على إقالة قادة الجيش فحسب، بل يُشبه إقالة معظم أعضاء مجلس الأمن القومي.. إنه يُشبه إقالة مجلس الوزراء، ولهذا، فإن المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، يبدو أكثر عزلة الآن مما كان عليه بالأمس.
صحيح أنه يُمكن استبدال بعض هؤلاء القادة فورًا، وقد فعلوا ذلك بالفعل.. سيكون لديك نواب أو نواب مساعدون.. سيكون لديك شخصٌ خبيرٌ بالمجال، خبيرٌ بالعمل، وقادرٌ على تولي هذا المنصب.. الفرق هو أنهم لن يتمتعوا بالمصداقية، أو العلاقات الشخصية، أو الثقة، أو حتى الخبرة في دوائر القيادة الإيرانية التي تمتع بها أسلافهم.. فيما يتعلق بالعمل اليومي المؤسسي الذي يقوم به القادة العسكريون، فمن المرجح أن يُؤدوا عملًا جيدًا.. لكن عندما يتعلق الأمر بالإجراءات الاستراتيجية والتنفيذية الأوسع، فهذا هو موضع عجزهم.. الأشخاص الذين حلوا محل من قُتلوا مباشرةً، جميعهم لا يزالون من كبار السن إلى حدٍ ما.. لذا، فإن الجيل الأصغر يقترب أكثر فأكثر من تولي القيادة.. أما الجيل الأصغر، فقد صقل مهاراته في سوريا والعراق واليمن ولبنان.. بالنسبة لهم، فقد رأوا إيران في أوج قوتها وتأثيرها.. كما شهدوا الانهيار المفاجئ لكل ذلك في العام الماضي.. ومن الصعب تحديد موقفهم من الخبرة والحماسة والعنف بدقة الآن.
قبل انهيار سوريا مثلًا، كان يمكن القول، إن الجيل الأصغر داخل الحرس الثوري الإيراني أكثر تشددًا، وأكثر ثقة، وأكثر صرامة في تركيزه على إسرائيل والولايات المتحدة، والأهم من ذلك كله، منفصل عن جميع المراحل الأولى التي شكلت الجمهورية الإسلامية، وخصوصًا الحرب الإيرانية ـ العراقية.. كل من قُتل في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، كانوا من قدامى المحاربين في الحرب الإيرانية ـ العراقية.. كانت تلك هي الحرب التي منحتهم بداياتهم، والتي شكلت حقًا نظرتهم للعالم.. وتلك الحرب مهمة لأسباب عديدة، لكن أحد أهمها أنها كانت حربًا طويلة ومرهقة ومدمرة للغاية.. هذا ما دفع القيادة العسكرية الإيرانية إلى ضمان عدم عودة الحرب إلى إيران.. أرادوا إبعاد الحرب عن إيران.. أرادوا خوض الحروب عبر وكلائهم وصرف الانتباه عنها قدر الإمكان.. لكن الآن، وصلت الحرب إليهم، وإذا كان الجيل الأصغر سنًا قد بدأ يكتسب الخبرة، فهو يفتقر إلى هذه الخبرة.. لم يعايشوا تلك الحرب.. سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت لديهم رغبة في الحرب الآن، أم أنهم محبطون بما يكفي ويريدون فقط إيجاد مخرج.
بصراحة، لم تعتبر إيران تهديدًا كبيرًا كما اعتبرته القيادة الإسرائيلية.. لقد فقدت طهران الكثير من جغرافيتها التي كانت تسيطر عليها، ومعظم وكلائها ذوي النفوذ، إما دُمِّروا مثل حماس أو جُرِّدوا من شوكتهم مثل حزب الله.. لقد تلاشت قدرة إيران على شن حرب غير مباشرة في معظمها.. لا يزال الحوثيون موجودين، وما زالوا قادرين على القيام ببعض الأمور الجادة، لكن إيران قد قُوِّضت تمامًا.. في رأيي، كانت إيران قد استنفدت 50% من طاقتها.. لم تكن إيران طرفًا فاعلًا حميدًا، لكنها كانت، من نواحٍ عديدة، قوةً مُستنفدة.. لكن من الواضح أن إيران لا تزال لديها النية.. لا تزال إيران تمتلك قدرات هائلة، ولم ترغب في التنازل بما يكفي عن برنامجها النووي لتهدئة مخاوف الولايات المتحدة وإسرائيل.. أصبحت إيران الآن أقل تهديدًا بكثير.. لا يوجد الكثير مما يمكنك فعله بقصف إيران.. يمكنك تدمير الكثير من الأشياء، لكن الكثير من الأشياء في إيران موجودة تحت الأرض.. من المرجح أن يكون النظام قادرًا على الصمود إلى حد كبير، من حيث قدرته على إحباط أي محاولة للإطاحة به.. إذا أردتَ حقًا تدمير كل ما تمتلكه إيران، فعليك نشر قوات برية، وتفتيش كل موقع على حدة وتدميره هناك.
هناك احتمال أن إيران لا تزال تمتلك ما يكفي من المواد الانشطارية، وقدرة كافية على التخصيب تحت الأرض، وربما احتفظت بخبرتها في مجال صنع القنابل.. قد ينتهي بها الأمر بامتلاك سلاح نووي إذا اختارت ذلك.. لا نعلم إن كانت قد فقدت مخزونها أم لا.. ولكن إن لم تفقده، وإن ظلت كل هذه الأسلحة محمية جيدًا تحت الجبال، فمن الممكن أن تُجري إيران تجربة نووية وتتحول إلى قوة نووية في الأسابيع أو الأشهر أو السنوات القادمة.. تجربة ضعيفة، لكنها تجاوزت تلك العتبة.. هذه هي الورقة الوحيدة التي لم يلعبوها بعد.. وإذا خسروا برنامجهم النووي، إما من خلال تسوية أو من خلال تدهور عسكري، فسيخسرون آخر رادع قوي لديهم ضد الولايات المتحدة على الأقل.. ومن الواضح أنه لم يعد رادعًا ضد إسرائيل.
لا تزال إيران قادرة على إلحاق الضرر إن شاءت، لكنها لم تعد قادرة على استعادة الردع.. ولأنها لا تستطيع استعادة الردع بأي شكل من الأشكال، فإن قوتها العسكرية بأكملها لا تؤدي الوظيفة التي صُممت من أجلها.. لكن من المحتمل، بعد هجوم إسرائيل عليها، فإن إيران ستتجه نحو التسلح.. أعتقد أنها نتيجة محتملة جدًا.. ليس أمام إيران خيار سوى خوض حرب ستدمرها وتدمر الجميع مع غرق السفينة.. يمكنها التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة، وتوقيع اتفاق، على أمل أن يكون ذلك كافيًا لتحقيق السلام مع إسرائيل.. أو، نظريًا، يمكن لإيران أن تُطلق العنان لإمكاناتها النووية وتُجري تجربة نووية وتُنتج سلاحًا.. بمعنى ما، يُمكن تخيّل قيامها بذلك لأنها مُهزومة في جميع الاحتمالات الأخرى.
لكن هذا هو الخيار الأسوأ.. هذا هو سيناريو كوريا الشمالية بالنسبة لإيران.. إذا امتلكوا السلاح النووي، فسيكونون قد قطعوا فعليًا سبل التطبيع والإصلاح وتحسين اقتصادهم.. سيُضاعفون، على أقل تقدير، عزلتهم وعقوباتهم.. سيستمر اقتصادهم في التدهور، وسيزداد اضطراب شعبهم.. سيتعين على إيران أن تُركز، بشكل شبه كامل، على القمع الداخلي، مع مواجهة المحاولات الإسرائيلية لإلحاق المزيد من الضرر.. ليس امتلاك السلاح النووي خيارًا جيدًا لإيران.. فهو لا يُمهد الطريق لأي مسار واعد للنظام، ولكنه قد يكون بمثابة فرصة سانحة له.. وبهذا المعنى، يُمكن اعتباره الخيار الأقل سوءًا بالنسبة للنظام.
إن الهجوم الإسرائيلي قد ألقى بظلاله على قبضة النظام الإيراني على السلطة.. أول ما يهم النظام، أي نظام، هو البقاء في السلطة.. في الوقت الحالي، لا يخشون في إيران المخاطر الخارجية على حكمهم فحسب، بل سيشعرون أيضًا بالقلق إزاء الوضع الداخلي.. يعلم النظام أن غالبية الإيرانيين، منذ زمن طويل، لم يُبدِوا أي اهتمام أو دعم لحرب إيران مع إسرائيل.. هذا هدفٌ للنظام، غايته، هدفه، قضيته المُفضّلة.. لكن هذه ليست قضيةً يدعمها الشعب الإيراني في الغالب، لأنها ما قاد إيران إلى التدهور الاقتصادي. ولهذا السبب تُعتبر جوازات السفر الإيرانية سيئة للغاية.. ولهذا السبب يُمنعون من دخول الولايات المتحدة.. لقد أدت حرب النظام الإيراني الإقليمية إلى دمار اقتصادي في إيران، ولم يدعمها الشعب قط.. ستكون هذه لحظة ضعف للنظام.. وسيظل هناك دائمًا خوف من أن يبدأ الناس بالاحتجاج، وأن ينزلوا إلى الشوارع، مما قد يُؤدي إلى وضعٍ حساسٍ للغاية.
الشيء الوحيد الذي يُرجّح أن يكون النظام بارعًا فيه هو القمع الداخلي، وهو أمرٌ يُرجّح أن يُركّز عليه، على الأقل في مداولاته الداخلية، فورًا.. في حين أن العقول المدبرة لإطارهم الإقليمي وبرامجهم الصاروخية والطائرات المسيرة قد قُضي عليها، فإن العقول المدبرة لشرطتهم، والباسيج (القوة التطوعية شبه عسكرية)، وقوات الأمن الداخلي لا تزال قائمة.. سينتقل هذا الجانب بسلاسة إلى احتواء الأضرار.. نعتقد أن الشعب الإيراني يدرك هذا، لذا سنتفاجأ إذا بدأ الناس بالاحتجاج قريبًا، لأن النظام سيسعى إلى كسر الجماجم. وإذا لم يتمكنوا من كسر الجماجم في إسرائيل، فسيفعلون ذلك في الداخل.
●●●
على الجانب الآخر، وفي التاسع من أكتوبر 2023، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل (ستغير الشرق الأوسط).. ربما لم يكن المراقبون منتبهين جيدًا، أو ربما ظنوا أنه مجرد كلام.. لكن خلال ما يقرب من عشرين شهرًا من الحرب الوحشية الإسرائيلية الذي تلت ذلك في قطاع غزة، بذل الإسرائيليون جهودًا كبيرة لتحقيق هذا الهدف.. ومع الهجوم الأخير على إيران، يسعون إلى توجيه ضربة قاضية وقاتلة لمحور المقاومة.. لقد حجب كل الموت والدمار في غزة، وما صاحبه من احتجاج دولي، ما تراه إسرائيل إنجازًا بالغ الأهمية.. فهي ترى أنها في وضع استراتيجي أفضل، وبالتالي أكثر أمانًا، مما كانت عليه في السابع من أكتوبر 2023.. لم يعد هناك مبرر عسكري لعمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية، لأن حماس لم تعد تُشكل تهديدًا.. معظم قادتها في غزة قُتلوا، والقلة المتبقية منهم لا تملك سوى موارد محدودة، واضطروا إلى الاعتماد على مقاتلين ذوي تدريب خفيف.. تستمر الحرب فقط لخدمة أجندة الضم التي يتبناها سياسيو اليمين المتطرف في إسرائيل.. ومع ذلك، لم يتحقق حلم السيطرة على غزة وتوسيع السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية، إلا بفضل العمليات الميدانية الأوسع التي يقوم الجيش الإسرائيلي.
لسنوات، اعتقد صانعو السياسات والمسئولون المنتخبون والمحللون وكتاب مقالات الشئون الخارجية، وقادة من مختلف الأطياف، أن إيران وحزب الله قد كبحا المزايا العسكرية لإسرائيل بمئات الآلاف من الصواريخ من مختلف الأنواع.. وبإجماع شبه كامل، اعتقد مجتمع السياسة الخارجية في واشنطن، أن الردع هو أفضل ما يمكن لإسرائيل تحقيقه.. إن مواجهة حزب الله مباشرة تعني تدميرًا كاملًا لشمال إسرائيل، وإلحاق أضرار جسيمة بمراكزها السكانية. ومع ذلك، وبفضل عشرين عامًا من المعلومات الاستخباراتية واستعدادًا متغيرًا تمامًا للمخاطرة الكبيرة بعد السابع من أكتوبر، تمكن الإسرائيليون من القضاء على قيادة حزب الله.. على مدار شهر تقريبًا في خريف عام ٢٠٢٤، نجح الإسرائيليون في إبطال التهديد الذي شكلته الجماعة.. وفي هذه العملية، لم يلحق دمار شامل بإسرائيل.. بقيت أبراج تل أبيب الزجاجية واقفة.. ولم تتضرر حيفا إلا قليلًا.. ولم يسقط أي صاروخ من حزب الله على الكنيست.
كان لاستعداد إسرائيل لتغيير بيئتها الأمنية آثار على لبنان وسوريا.. لأول مرة منذ أربعة عقود، أصبح لدى لبنان حكومة قادرة على استعادة سيادتها من جهة فاعلة غير حكومية، أصبحت القوة الاستكشافية للحرس الثوري الإسلامي الإيراني.. وليس من الواضح كيف ستسير عملية الانتقال في سوريا؛ فلا تزال هناك تحديات كثيرة.. لكن العديد من السوريين احتفلوا برحيل زعيم حزب الله، حسن نصر الله، مما مكّن من الإطاحة بسلالة الأسد.. والآن، جاء دور إيران: (رأس الأفعى)، كما يسميها الإسرائيليون.. كانت هناك تعليقات لا حصر لها، حتى أثناء الموجة الأولى من الهجمات الإسرائيلية، تُفيد بأن الجيش الإسرائيلي لا يملك القدرة على تدمير البرنامج النووي الإيراني، وأن أي محاولة للقيام بذلك ستؤدي إلى حرب إقليمية.. لم تمضِ سوى ساعات قليلة على بدء الضربات الإسرائيلية على إيران، لكن هذه اليقينيات تبدو غير مؤكدة، ما لم تُشارك واشنطن في حرب إسصرائيل على إيران، وتتولى قاذاتها من طراز B2، مهمة اختراق الحصون الجبلية والأ‘ماق الأرضية التي توجد بها المفاعلات النووية، في فوردو ونطنز..
كان من المفترض أن يأتي هذا التلميح في أكتوبر الماضي، عندما وجهت إسرائيل ضربة للدفاعات الجوية الإيرانية ومنشآت إنتاج الصواريخ، باستخدام أسلحة لم يكن معروفًا من قبل أنها موجودة في مخزونها.. في الهجوم الأخير، أفادت التقارير أن الإسرائيليين قتلوا العديد من الشخصيات البارزة في النظام وكبار العلماء النوويين، ودمروا جزءًا من قوته الصاروخية، وهاجموا منشأة تخصيب اليورانيوم الرئيسية في البلاد في نطنز. وصرح القادة الإسرائيليون بأن الضربات ستستمر.. كان من المفترض أن يكون هذا مفاجئًا فقط لمن لا ينتبه إلى الطريقة التي تنفذ بها إسرائيل استراتيجيتها المتغيرة.. وبغض النظر عن أي تطورات عسكرية محددة، فإن التحول في التفكير الإسرائيلي بشأن الأمن، يُفرض تحولًا نموذجيًا محتملًا في الشرق الأوسط.. من الواضح أن الإسرائيليين غير راضين عن إلحاق الضرر بالبرنامج النووي الإيراني وحسب، بل يبدو أنهم منخرطون في تغيير النظام.. إنهم يدركون ما يبدو أن قلة قليلة في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية تدركه.. قادة النظام الإيراني لا يريدون علاقة جديدة مع الولايات المتحدة.
بعد السابع من أكتوبر 2023، يرى ستيفن كوك، كاتب العمود في مجلة (فورين بوليسي)، والزميل الأول في إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، وصاحب كناب (نهاية الطموح: ماضي أمريكا وحاضرها ومستقبلها في الشرق الأوسط)، أنه من الواضح أن الإسرائيليين قد سئموا من هذه اللعبة، فشرعوا في تنفيذ حل عسكري لمشكلتهم، والذي بلغ ذروته بالهجوم على إيران.. في الساعات الأولى التي تلت الضربات الأولى، أشار القادة العسكريون الإسرائيليون إلى أنهم خططوا لأكثر من مجرد ضربة واحدة.. أوضحت الأهداف التي تم ضربها، أن هدف إسرائيل كان أوسع من مجرد الإضرار بالبرنامج النووي الإيراني.. إنها استراتيجية محفوفة بالمخاطر، مبنية على افتراض، أنه في حال رحيل النظام الإيراني أو إضعافه بشكل كبير، فقد تختفي أيضًا العديد من المشاكل التي عصفت بالشرق الأوسط.. الجانب الإيجابي المحتمل لإسرائيل كبير.. مزيد من الأمن، وزيادة آفاق التكامل الإقليمي، والإغلاق النهائي للدولة الفلسطينية.. لكن الجانب السلبي كبير أيضًا، في حال نجا النظام وبقاء الجمهورية الإسلامية على قيد الحياة للقتال في يوم آخر.
ربما أصبح مصطلح (وجودي) مُبالغًا في استخدامه.. لكن السابع من أكتوبر ذكّر الإسرائيليين بالتحدي الوجودي الحقيقي الذي يواجهونه.. لقد استيقظوا في ذلك الصباح على عالم لم يعد فيه الردع منطقيًا.. وكانوا واضحين منذ البداية أنهم بحاجة إلى إيجاد طريقة أخرى لتأمين حدود إسرائيل.. وهنا يكمن مصدر التوتر بين إدارتي بايدن وترامب والحكومة الإسرائيلية: اعتقد الأمريكيون أن وقف إطلاق النار واتفاقيات الحد من الأسلحة، هي أفضل طريقة لإدارة مشاكل إسرائيل الأمنية.. اختلف الإسرائيليون مع هذا الرأي وسعوا إلى حلها نهائيًا.
●●●
لم يُكشف بعد عن المدى الكامل للضربات الإسرائيلية على إيران.. لكنها تتجاوز بكثير ما حققته إسرائيل في هجماتها في أبريل وأكتوبر 2024.. من الواضح بالفعل أن إسرائيل تمكنت من ضرب مواقع نووية رئيسية، مثل منشأة نطنز للتخصيب، ومواقع مرتبطة بأبحاث محتملة لصنع الأسلحة، ومواقع إطلاق الصواريخ الباليستية، والعديد من كبار قادة النظام والشخصيات العاملة في البرنامج النووي الإيراني.. وهذا أوسع نطاقًا بكثير مما توقعه أي شخص تقريبًا.. ومع ظهور التفاصيل، سيُزيد مدى اختراق إسرائيل للنظام الإيراني، من إحراج هذا النظام.. إيران متحمسة جدًا للرد، لكن قدرتها على القيام بذلك بفعالية على المدى القريب، ستُعيقها الفوضى القيادية التي زرعتها الضربات.. ما زال من غير الواضح مدى الضرر الذي لحق بالمواقع غير الرسمية، أو الخسائر المدنية.. لكن من المرجح أن تحاول إيران تعويض أي خسائر تكبدتها في المجال المدني، بالإضافة إلى مهاجمة أهداف عسكرية واستخباراتية وقيادية إسرائيلية.
ولفهم ما قد تعنيه الضربات الإسرائيلية بشكل أفضل، طالعنا آراء دانيال شابيرو. الذي منصب نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشئون الشرق الأوسط حتى يناير، وكان مكلفًا، من بين أمور أخرى، بدراسة سيناريوهات تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران إلى حرب شاملة، وإعداد خيارات الولايات المتحدة للرد.. وهو الآن زميل متميز في المجلس الأطلسي، بعد أن شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، ومدير أول لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجلس الأمن القومي، الذي قال بها لدانيال بلوك، كبير محرري Foreign Affairs، الذي أكد أن الرئيس الامريكي، دونالد ترامب، سعى إلى منح نتنياهو مزيدًا من الوقت بالمحادثات النووية مع طهران، ثم ذهب إلى النأي بنفسه عن قرار نتنياهو، سعيًا منه إلى ردع إيران عن توجيه أي رد فعل ضد الولايات المتحدة.. وقد يأمل ترامب أيضًا في إبقاء المفاوضات النووية قائمة.. لكن حلمه بالتوصل إلى حل دبلوماسي يُنهي التخصيب النووي الإيراني يبدو أنه قد انتهى.. ومن المرجح الآن أن تُسارع إيران إلى تحقيق اختراق نووي، مما يضع ترامب في مأزق: هل سيحتاج إلى التدخل عسكريًا لمنعها؟.
كان المقصود من تصريح روبيو بأن الهجوم الإسرائيلي على إيران، جاء بقرار منفرد من نتنياهو، هو لفت انتباه إيران إلى أن الولايات المتحدة لم تكن متورطة، وأن إسرائيل تصرفت بشكل أحادي.. ويُعدّ إغفال إسرائيل مؤشرًا إضافيًا، على أن واشنطن لا تريد أن يُنظر إليها على أنها أيدت الإجراء الإسرائيلي.. لكن من غير المعقول ألا يكون لدى المسئولين الأمريكيين علم مسبق.. لا يعني تصريح روبيو، أن الولايات المتحدة لن تُساعد في الدفاع عن إسرائيل، بل ستفعل.
لطالما وعد نتنياهو الإسرائيليين بأنه لن يسمح لإيران بتطوير سلاح نووي.. لقد كان هذا الأمر محوريًا في مسيرته السياسية.. وأنه شعر بأن إسرائيل قد لا تتاح لها فرصة أفضل لضرب المنشآت النووية الإيرانية.. لقد قضت إسرائيل على وكيل إيران اللبناني، حزب الله، في سبتمبر 2024، ثم دمرت بطاريات الدفاع الجوي S-300 التي زودتها بها روسيا ـ وهي الأكثر تطورًا لدى طهران ـ في أكتوبر.. هذان العاملان، بالإضافة إلى سقوط حليف إيران الإقليمي الرئيسي، نظام الأسد في سوريا، أضعفا قدرة إيران على الدفاع عن مواقعها النووية أو الرد.
تطلق إيران الآن ما يصل إلى عدة مئات من الصواريخ الباليستية على إسرائيل.. وهذا يتماشى مع ردها على الإجراءات الإسرائيلية السابقة.. بعد أن قتلت إسرائيل قائدًا إيرانيًا بارزًا في دمشق في أبريل 2024، أطلقت إيران أكثر من ثلاثمائة صاروخ باليستي متوسط ​​المدى، على إسرائيل.. في أكتوبر، وبعد أن قضت إسرائيل على حزب الله في لبنان، أطلقت إيران ضعف عدد الصواريخ الباليستية.. في أبريل، تمكنت إسرائيل من تجنب أضرار جسيمة بدفاعاتها الجوية، ودفاعات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.. لكن هجوم أكتوبر سجل بضع عشرات من الضربات التي تسببت في أضرار طفيفة نسبيًا.. وفي وقت سابق من يونيو، تعهدت إيران تحديدًا بضرب المنشآت النووية الإسرائيلية ردًا على هذا النوع من الهجمات.
من خلال تركيز دفاعاتها على مواقع حساسة معينة وسكان مدنيين، من المرجح أن تحاول إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، منع تشبع دفاعاتها الجوية وتقليل الأضرار، كما فعلت ضد الهجومين الإيرانيين السابقين.. وقد نشرت الولايات المتحدة بطاريتين من نظام (ثاد)، وهو دفاع مسرح العمليات للمناطق عالية الارتفاع في إسرائيل للمساعدة.. يُكمل هذا النظام نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي (حيتس)، بالإضافة إلى السفن البحرية الأمريكية القريبة ذات القدرة الدفاعية الصاروخية.. من غير المرجح أن ينتهي الصراع حتى لو تراجعت إيران بسرعة.. وستواجه إسرائيل، على الأرجح، هجمات إضافية من الحوثيين في اليمن.. وقد يُطلب من حزب الله، حتى في حالته الضعيفة، الرد أيضًا.. لكن من غير المرجح أن يتمكن الحوثيون من إطلاق وابل كثيف من الصواريخ.. كما أن تراجع قدرات حزب الله سيحد من تأثيره، وكذلك ضغوط الحكومة اللبنانية الجديدة.
نتنياهو يُصرح بأن الضربات الإسرائيلية ستستمر، حتى تقتنع إسرائيل بزوال خطر إيران النووية.. لذا، قد ننظر إلى ما يشبه حملة عسكرية، وليس هجومًا منفردًا.. وسيعتمد شعور إسرائيل بالحاجة إلى الرد على محاولات إيران الانتقامية بشكل كبير، على مستوى الأضرار والخسائر التي تتكبدها.. لذا، فإن الدفاع ضد الصواريخ الإيرانية قد يكون له تأثير تهدئة، في حين أن الخسائر الكبيرة ستدفع إسرائيل، على الأرجح، إلى السعي لضرب إيران مرات أخرى.
في أكتوبر الماضي، سعت إسرائيل إلى تنسيق ردها على هجوم إيراني مع واشنطن، مما أتاح للرئيس الأمريكي، جو بايدن، فرصًا لتشكيل الرد الإسرائيلي والحد منه.. لكن إسرائيل أبدت اهتمامًا ضئيلًا بمثل هذا التنسيق هذه المرة، وقد يجد ترامب أيضًا أنه غير مجدٍ.. قد يعني هذا، أن إيران تجد صعوبة أكبر في خفض مستوى التصعيد.. ومن غير المرجح أيضًا أن ينتهي الصراع حتى لو تراجع الجيش الإيراني بسرعة.. على إسرائيل أن تتوقع سلسلة متواصلة من الهجمات غير المتكافئة، مثل العمليات الإليكترونية والهجمات الإرهابية ضد سفاراتها ومسافريها وشركاتها.
وهنا يسأل البعض: ما هو احتمال أن تهاجم إيران القوات الأمريكية وقواعدها العسكرية في الشرق الأوسط؟.
أوضح ترامب، أن واشنطن لم تكن متورطة في الضربات الإسرائيلية، وحذر إيران من استهداف القوات الأمريكية.. إذا أدرك القادة الإيرانيون، أن تدخلهم في شئون الولايات المتحدة أو جهات أخرى في المنطقة، يعني أنهم يواجهون خطر هجوم أمريكي مباشر، من شأنه أن يُفاقم الضرر الذي ألحقته إسرائيل بالفعل، فمن المرجح أن يحدّوا من ردهم على الهجمات ضد إسرائيل.. قد تُخفّض إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحاول إعادة بناء بنيتها التحتية النووية المتبقية ودفنها وتعزيزها.. لكن قد تختار عدم مهاجمة جهات أخرى غير إسرائيل، لإبعادها عن الحرب.
ولكن، لنفترض أن إيران هاجمت الولايات المتحدة، مما دفعها إلى ردّ انتقامي، أو أن واشنطن قررت التدخل المباشر لمنع إيران من تحقيق اختراق نووي.. كيف قد يتطور أي هجوم أمريكي على إيران؟.
بعض الموارد التي من شأنها تسهيل توجيه ضربة أمريكية متوفرة بالفعل.. لا تزال مجموعة حاملة الطائرات (يو إس إس كارل فينسون) الضاربة منتشرة في المنطقة.. قبل أي ضربة، قد تبحر مجموعة حاملة طائرات ثانية نحو المنطقة.. ومن المرجح أيضًا نشر طائرات إضافية، مثل أسراب المقاتلات وناقلات النفط ومروحيات البحث والإنقاذ، في قواعد بالمنطقة.. كما تمتلك الولايات المتحدة قدرات يمكنها استخدامها، إذا كانت تنوي استهداف منشأة التخصيب الإيرانية المدفونة في فوردو.
هنا، لن تتحمل إيران الضربات الأمريكية دون ردّ انتقامي.. تمتلك إيران ترسانة من آلاف الصواريخ الباليستية قصيرة المدى والطائرات المسيرة، يمكنها إطلاقها على قواعد أمريكية في البحرين والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.. وقد استخدمت هذه الصواريخ لمهاجمة القوات الأمريكية عقب اغتيال واشنطن لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، عام ٢٠٢٠.. ومن المرجح أن تُقدم إيران الآن على محاولة لامتلاك سلاح نووي.. قد تُطلق الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، المُسلحة بطائرات إيرانية مسيرة، صواريخها على قواعد أمريكية، كما فعلت لعدة أشهر بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.. وقد تستهدف أيضًا السفارة الأمريكية في بغداد.. قد تحتاج القوات والأفراد في هذه المواقع إلى قضاء فترات طويلة في الملاجئ.. قد تُصبح الذخائر القادمة أقل عددًا من أنظمة الدفاع الجوي في مواقع مُحددة.. سيكون هناك خطر وقوع خسائر بشرية أمريكية.. ستحتاج الولايات المتحدة إلى الضغط على الحكومة العراقية، لمنع الميليشيات الشيعية من الانضمام إلى القتال، وهو ما فعلته منذ منتصف عام ٢٠٢٤.. سيتعين على القوات الأمريكية أن تكون مستعدة لضرب الميليشيات التي تهاجمها، كما فعلت عدة مرات العام الماضي.. وسيتعين على الولايات المتحدة والحكومات الإقليمية، دفع الحوثيين إلى عدم استئناف هجماتهم في البحر الأحمر.. وسيتعين عليهم الاستعداد لاستئناف الضربات إذا استأنفها الحوثيون.. كما يتعين على واشنطن الاستعداد لهجمات غير متكافئة في المنطقة وفي الولايات المتحدة نفسها.
ويبقى السؤال الأخير والمهم: هل يمكن لإيران أو شركائها، أن يقرروا مهاجمة الدول العربية، كما فعلوا في الماضي؟.
لقد أدانت دول الخليج الهجوم الإسرائيلي، لثني إيران عن ضرب أراضيها وأصولها.. ولكن إذا تدخلت الولايات المتحدة، فقد تُطلق إيران صواريخ باليستية قريبة المدى، على مواقع مدنية أو بنى تحتية للطاقة في دول الخليج، لتحصيل ثمن ما قد تعتبره تواطؤًا مع هجوم أمريكي.. ستدرس إيران أيضًا إغلاق مضيق هرمز أمام ناقلات النفط والغاز باستخدام حصار بحري، أو ألغام بحرية، أو ألغام لاصقة تُنشر بواسطة زوارق سريعة، أو مزيج من هذه الأساليب.. صحيح أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تمتلكان دفاعات جوية ضخمة، لكن جميع هذه الدول ستظل عرضة للضربات.
●●●
■■ ويبقى أن نقول..
أن معظم التقديرات أشارت إلى أن إسرائيل، بمفردها، قد تُؤخر البرنامج النووي الإيراني لعدة أشهر.. وفي المقابل، قدّرت التقارير العامة، أن الضربات الأمريكية قد تُؤخر البرنامج النووي الإيراني لمدة تصل إلى عام.. لكن هذه الجداول الزمنية تفترض، أن تبدأ إيران إعادة البناء فورًا، ولا تأخذ في الاعتبار أي تأخيرات إضافية قد تحدث بناءً على عوامل اقتصادية أو سياسية.. كما لا تأخذ هذه التقديرات في الاعتبار تأثير الردع أو إعادة الضربات المحتملة.. لكن من المرجح أن تُسارع إيران الآن إلى امتلاك سلاح نووي.. سيواجه ترامب بدوره قرارًا بشأن التدخل العسكري، لمنع امتلاك إيران سلاحًا نوويًا.. سيؤدي هذا القرار إلى انقسام مستشاريه وقاعدته السياسية، نظرًا لعزمه المُعلن منذ فترة طويلة، على إبقاء الولايات المتحدة بعيدة عن حروب الشرق الأوسط.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.