استثمار أموال الزكاة بعيدا عن استنساخ دور الجمعيات الأهلية

تشغلني أهمية الاستثمار الأمثل لأموال الزكاة وكيف يمكن أن تٌغير هذه الأموال من حياة الفقراء والمعدمين والمكروبين في وطن يحتاج لعدم إضاعة الوقت في حقول التجارب والأهداف النبيلة التي لا تٌثمن ولا تٌغني من جوع، ذلك أنها لا تحمي من ينتظر ويستحق الحصول على نتائج تنتصر لأمله في الحياة الكريمة ما لم يعقبها التخطيط الجيد الذي يتقنه المبدعون أصحاب الإرادة الخلاقة.
والأهداف النبيلة أيضا لا يمكن أن تصنع الفارق في حياة المجتمعات لو توقفت عند حدود النبل والمعنى المقتصر في نية فعل الخير دون الاستدلال عن نتائجه أو امتلاء الخزانة ببنك الحسنات دون التأكد من أن العطاء وصل إلى هدفه الصحيح، وأقول ذلك لأنني لاحظت أن الكثير من مؤسسات ولجان الزكاة والصدقات في مصر تٌعيد استنساخ دور الجمعيات الأهلية، فهي تٌطعم الطعام وتٌصدر صكوك الأضاحي وتٌقدم لحوم الصدقة وتساهم في توصيل المياه النظيفة وتفك كرب الغارمين وتعالج المرضى وتٌيسر الزواج وتكفل اليتيم وتدفع للناس الإعانات النقدية وغير ذلك من المجالات التي تٌبيحها مصارف الزكاة الشرعية، ثم نجد أن هذه المؤسسات واللجان تمارس في النهاية نفس الدور الذي تقوم به جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، ومصر تعج بهذه الكيانات الأهلية التي تقوم بأدوار هامة في المجتمع حتى أنه لا يكاد يخلو شارع أو حارة أو زقاق في مصر من جمعية أو مؤسسة أهلية، وفقد وصل عددها إلى نحو 52 ألف جمعية ومؤسسة مقيّدة ضمن المنظومة الإلكترونية للعمل الأهلي ومن بينها من حقق إنجازات ضخمة ومؤثرة في المجتمع المصري وساندت آلام الناس وأوجاعهم وزللت عليهم الكثير من صعوبات الحياة ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر مؤسسة مصر الخير وبنك الطعام المصري وجمعية الأورمان وجمعية رسالة وغير ذلك وجميعها لها فروع في عوصم المحافظات وفي المدن والقرى والنجوع وفي الاعتقاد أن هذه الكيانات المحترمة والمؤثرة قد صَعبت الدور على كل من يحاول استنساخها وتكرار دورها.
هذا يدفعني للبحث عن الأسباب التي تدفع مؤسسات ولجان الزكاة والصدقات إلى السير في هذا المسلك، رغم أن أموال الزكاة والصدقات يمكن لو أحسن المتصرفون فيها التخطيط أن تقضي على الفقر بكل أشكاله، ولا شك في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو من أسس لذلك بفريضة الزكاة والغرض منها وهو بعدالته من أقر حقا في مال الغني (وليس منحة أو عطاء) للسائل والمحروم والفقير والمعدم، ونحن لا يمكن أن نمر بتجربة الخليفة الراشد وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مرور الكرام، فهو الملقب بمعالج الفقر والذي حقق عصرا بلا فقر، ونحن نُذهل أمام الإجماع التاريخي الذي اعترف بذلك حتى إن الأغنياء كانوا يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون يد فقير تٌبسط إلى هذا المال، ويا للعجب ! لم يحدث ذلك في عشرين عامًا ولا حتى في عشرة أعوام،كلا والله، بل في سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام هي فترة ولاية الخليفة الراشد، وكان عمر بن عبد العزيز يحكم دولة بلغت ذروة اتساعها وأقصى حدودها، حيث امتدَّت من أطراف الصين شرقًا إلى جنوب فرنسا غربًا، حتى أنه قرَّر وقف الفتوحات نظرًا للاتساع الكبير للدولة، وتوجَّه بدلًا من ذلك إلى توطيد الحكم وإصلاحه، والاهتمام بأمور الناس، وحين قضّى زاهد العلماء وعادل الأمراء الخليفة عمر بن عبد العزيز على الفقر لم يكن يملك وسائل إعلامية ودعائية تروج لجمع الزكاة والصدقات، ولم يكن يشهد عهده سداد الزكاة من كل فج عميق عبر التطبيقات الإلكترونية، ولم يكن يمتلك الحواسب ووسائل الاتصال ووسائل الإدارة المرفهة.. لكنه كان يمتلك الصدق والإرادة، لذلك حقق المعجزة.
وعندما نٌشجع البحث عن وسائل أخرى لاستثمار أموال الزكاة بعيدا عن تكرار منجزات مؤسسات المجتمع المدني، فيجب أن ندرك أولا أهمية المال في الإسلام فهو ركن من أركان الدين، كما هو ركن من أركان الدنيا، أما كونه من أركان الدنيا فأمر يعلمه الجميع فالمال قِوام الأعمال، والمال قوام الحياة وهو المعنى المذكور في قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا}، وأما كونه من أركان الدين فيتجلى أولا في الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو ركن الزكاة. فالزكاة مال وعبادة مالية، وركن مالـيٌّ من أركان الإسلام، وإذا أدركنا ذلك بعين اليقين لعرفنا قيمة المال وكيفية الاستفادة المثلى منه في إصلاح المجتمعات الفقيرة والمعدمة.
وكنت أرى دائما أن التصرف في أموال الزكاة في صورة إعانات نقدية ومساعدات مختلفة وغير ذلك لا يحقق الأهداف التي من أجلها فٌرضت الزكاة ومنها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي بين الأغنياء والفقراء وتوزيع الثروات بشكل عادل والتخفيف من معاناة الفقراء والمحتاجين بما يساهم في بناء المجتمع، ومبعث هذه الرؤية أن كل هذه المساعدات والإعانات هي حلول مؤقتة قد تٌسكن لكنها لا تعالج الفقر ولا تقضي عليه، بل إن اعتياد أهل العوز والحاجة على الشكل التقليدي في الانتفاع بالزكاة نقدا أو في مساعدات مؤقتة يجعلهم يرتكنون إلى هذه العطايا وقد يعزفون عن العمل والجد ومن هنا يمكن أن يكون هذا التصرف في أموال الزكاة سببا في انهيار المجتمعات بدلا من بنائها ونمائها، لذلك تصورت أن استثمار أموال الزكاة في مشروعات إنتاجية كبرى يٌستخلص عائدها لصالح هؤلاء الفقراء هو الحل الأمثل الذي يؤمن لهم مورد دائم يحقق الحياة الكريمة لهم بعيدا عن السؤال والتزاحم على منافذ مؤسسات الزكاة ولجانها في صورة تكرس الفقر والذل والمهانة وقد تؤدي مع صعوبة الإجراءات وتعقيداتها وقصور خبرة بعض القائمين على التصرف فيها من خلال حلول ميسرة إلى بناء الحقد والكره في قلوب الفقراء.
وخلال عزمي على المضي في البحث حول فكرة استثمار أموال الزكاة، وقعت أمامي فتوى قيمة وهامة وتاريخية لدار الإفتاء المصرية حول حكم استثمار أموال الزكاة بعمل مشاريع استثمارية لصالح الفقراء والمساكين، وأن دار الإفتاء المصرية وافقت على ذلك وأباحته بشروط تتوافق مع الشريعة الإسلامية وصحة التصرف في أموال الزكاة، وقد وصَفت هذه الفتوى بالقيْمة والتاريخية لأن واضعيها قدموا إلى جانب الأسانيد الشرعية كيفية التطبيق العملي لاستثمار أموال الزكاة في مشروعات تكفل للفقراء مورد دائم يحقق الحياة الكريمة لهم بل يجعلهم مع مضي الوقت من الأغنياء، وقد يصبحوا في يوم من الأيام من دافعي الزكاة والصدقات.
وذكرت دار الإفتاء أن من شروطها أن يٌخرج صاحب مال الزكاة التي وجبت عليه عن ملكية هذا المال، ويتم تمليك المشروع للفقراء، فمال الزكاة في هذا الوقت ليس ملكا لدافعه بل صار ملكا لمستقبله وحق له، ولذلك يجب أن يتملك المشروع المنتفعين بالزكاة، ثم قدمت دار الإفتاء حلا عمليا لتطبيق الفكرة كأن يُعمل مال الزكاة مثلًا في صورة شركة مساهمة يتملك أسهمها للفقراء، ولا تكون ملكيتها لصاحب المال الذي أخرج الزكاة، بل لا بد أن تخرج أموال الزكاة من ملكيته لتبرأ ذمته ويتحقق إيتاء الزكاة وإخراجها، وإلا صارت وقفًا لا زكاة.
وقد يعترض من لم يستوعب الفكرة جيدا ولم يَسع خلفها بجهد ودراسة بل ينتقدها بدافع أن هؤلاء الفقراء قد لا يكون لهم خبرة في إدارة المال وعمليات الإنتاج والصناعة والخدمات وغير ذلك، وقد يضيع مال الزكاة هباء منثورا بهذا التصرف!
وهنا أقدم هذا المقترح لعله يجد صدى لدى من بيده أمر أموال الزكاة والصدقات في مؤسساتها ولجانها في كافة ربوع مصر:
أولا:
يمكن قيام مشروعات إنتاجية وصناعية في صورة شركات مساهمة يتملك فيها مستحقي الزكاة نسبة أقل من 50 % من رأس مال الشركة، أما باقي رأس المال الغالب فيمكن سداده من التبرعات أو تٌراجع فيه دار الإفتاء المصرية للسؤال عن إمكانية سداده من أموال الصدقات وقد لا يكون هناك ما يمنع إذا وجه دافعي أموال الصدقات هذه الأموال لهذا الغرض، وهو غرض نبيل سوف يكفل للفقراء مورد دائم.
ثانيا:
يتم تشغيل مستحقي الزكاة في شركاتهم في مقابل رواتب تشغيلية تسدد من عوائد استثمار رأس المال، وهنا يتحقق لهم موردين الأول من الأرباح السنوية والثاني من الرواتب الشهرية.
ثالثا:
تتولى مؤسسات الزكاة استحضار الكفاءات والخبراء لإدارة هذه الشركات باعتبار أنها ستكون المسيطرة على الإدارة وهي من ستعين مجالس إدارات الشركات ومدراءها، ولا يوجد ما يمنع من الاستعانة بالكفاءات ومن يصلح من بين أصحاب رأس المال من مستحقي الزكاة إذا تبين قدرته على ذلك، فمن بين الفقراء أيضا المتعلمين الحاصلين على شهادات عليا، وليس كل فقير أو مستحق للزكاة قد أصابه من الجهل نصيب، أو أنه فقد فرصته التعليمية، ومع ارتفاع معدلات الفقر في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة سوف نجد أن فئة كبيرة من الطبقة المتوسطة قد أصبحت من مستحقي الزكاة، وهذه الطبقة مكدسة بالمتعلمين والمثقفين وأيضا أصحاب الحرف والمهن اليدوية والفنية المختلفة.
رابعا:
مع نجاح المشروع والشركة القائمة وظهور كوادر قادرة على الإدارة من بين المساهمين يٌمكن أن ترتفع نسبة مساهمتهم في الشركة خطوة بخطوة، ويمكن في هذه الحالة تحويل أموال الصدقات في الشطر الأكبر من رأس مال الشركة إلى أسهم مجانية لمستحقي الزكاة من المساهمين وبذلك يتملكون شركاتهم بالكامل مع مرور الوقت، ويتحولون من حالة الفقراء إلى حالة الأغنياء القادرون أيضا على إخراج الزكاة ومن زكاتهم يمكن أن تٌعاد الكَرة وتدور الدائرة.
خامسا:
ينبعي للوصول إلى هذه النتيجة أن يقوم الخبراء والاستشاريون والمديرون الذين ستعينهم مؤسسات الزكاة للإشراف على هذه الشركات وإداراتها بالتخطيط لبرامج تدريبة متخصصة في رفع كفاءات المساهمين العاملين في كافة التخصصات كل حسب إمكاناته ومهاراته ومستواه التعليمي حتى يتم تأهيلهم مع الوقت للاستقلال بإدارة شركاتهم.
سادسا:
قد يكون من التخطيط الجديد أن تعمل هذه الشركات في مشروعات إنتاجية كبرى يٌستغل فيها الأيدي العاملة من المساهمين في رفع معدلات الإنتاج ويمكن أيضا أن تدعم الدولة هذه المشروعات بإجراءات ميسرة تشجع على تصدير منتجاتها وإدخال العملة الصعبة للدولة المصرية، ولا أتصور أن المشروعات الصغيرة يمكن أن تستوعب ضخامة أعداد البطالة الكبيرة والمتزايدة والتي بلا شك يعاني منها مستحقي الزكاة وإلا ما لجئوا أصلا إلى مؤسسات الزكاة ولجانها.
سابعا:
يجب على مؤسسات الزكاة والصدقات ولجانها في مصر أن تطلع على تجارب مثيلاتها في دول العالم الإسلامي ولا تجمد نفسها في وضع الجليد وتكتفي بتكرار تجربة المؤسسات والجمعيات الاهلية، فهناك تجارب واعدة ومهمة في بعض الدول الإسلامية والتي بدأت في تطوير سياسات تنموية جديدة تهدف أساسا إلى الاستفادة من أموال الزكاة عبر تطوير وتحديث مؤسسات جمع وتوزيع الزكاة واستثمار أموالها بما يكفل مورد دائم لمستحقي الزكاة ونجد أن هناك تجارب مميزة كنا هو الحال في الكويت، ماليزيا، قطر، السودان، نيجيريا، إندونيسيا حيث ساهمت الإدارة الاقتصادية الإبداعية والخلاقة لأموال الزكاة في مكافحة الفقر في مجتمعات هذه الدول بصورة واضحة، فالاستفادة من التجارب ليس عيبا !
وهنا أتذكر رؤية أحد القائمين على نموذج من مؤسسات ولجان الزكاة عند تولي منصبه الجديد حين قال للفقراء: (سأقضي على المتسولين لتصبح مدينتا أكثر تألقا ويعيش فيها الجميع تحت ظل القيم الإنسانية والمعاني الحضارية التي تستحقونها) لكنه بكل أسف لم يٌحسن استغلال أموال الزكاة والصدقات بالطرق الاقتصادية والعلمية التي تقضي على فقر المجتمعات، وتحت برامج وسياسات هذا المسئول دخل الفقراء السجون وتشرد أبنائهم وزادوا فقرا لأنه فكر بالأهداف النبيلة لكن عمله كان الأقبح على الإطلاق فقد ساهم في إفقار الفقير وطحن المعدمين والمكدودين من خلال أفكاره التقليدية.
لا أعتقد أن أي مسؤول في مؤسسات الزكاة والصدقات يخضع للمحاسبة في الدنيا أو الآخرة ستحميه عبارة (كان هدفي نبيلا) أو (أنني اجتهدت وأخطأت)، خصوصا عندما يستنسخ تجارب لا تكفل حياة كريمة للمواطن الفقير… فالاستغلال الأمثل لأموال الزكاة هو السبيل الوحيد للقضاء على الفقر والبطالة وتحويل الفقراء من خانة مستحقي الزكاة إلى خانة دافعي الزكاة… وللحديث بقية