كارلوس سافيدرا لاماس.. مهندس السلام اللاتيني الذي نال نوبل وتوارى في الظل

كارلوس سافيدرا لاماس.. مهندس السلام اللاتيني الذي نال نوبل وتوارى في الظل

في عالم تحكمه لغة المصالح والصراع، يبرز أحيانًا أشخاص يسيرون عكس التيار، يؤمنون بالحوار حين يعم السلاح، وبالهدوء في زمن الانفجار. أحد هؤلاء كان كارلوس سافيدرا لاماس، السياسي والدبلوماسي الأرجنتيني الذي دخل التاريخ كأول أمريكي لاتيني ينال جائزة نوبل للسلام عام 1936، بعد وساطته الناجحة لإنهاء حرب تشاكو بين بوليفيا وباراغواي، لكنه آثر الابتعاد عن الأضواء، متواريًا خلف كواليس السياسة.

من بوينس آيرس إلى قاعات القانون الدولي

ولد كارلوس سافيدرا لاماس في 1 نوفمبر 1878 في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، لعائلة تنتمي إلى النخبة السياسية والاجتماعية في البلاد، وكان من نسل مفكر الاستقلال الشهير خوان لافايي.

 حصل على الدكتوراه في القانون من جامعة بوينس آيرس عام 1903، ثم شرع في مسيرة أكاديمية مرموقة، حيث درس القانون الدستوري في جامعات بوينس آيرس ولا بلاتا، وعين لاحقًا رئيسًا لجامعة بوينس آيرس بين عامي 1941 و1943.

رجل قانون في قلب السياسة

دخل سافيدرا لاماس البرلمان الأرجنتيني عام 1908، حيث شغل مقعدًا حتى عام 1915، ثم تم تعيينه وزيرًا للعدل والتعليم. لكن ذروة مسيرته السياسية جاءت حين اختير وزيرًا للخارجية في حكومة الرئيس أغوستين بيدرو خوستو عام 1932، وهي الفترة التي شهدت أخطر أزمات القارة: حرب تشاكو، التي اندلعت بين بوليفيا وباراغواي بسبب نزاع على منطقة غنية بالنفط، وراح ضحيتها أكثر من 100،000 قتيل.

صانع السلام ومهندس الاتفاقات

ما بين 1932 و1935، لعب سافيدرا لاماس دورًا محوريًا في الوساطة بين البلدين المتنازعين، مستخدمًا خبرته القانونية وحنكته الدبلوماسية. توجت جهوده بتوقيع “بروتوكول بوينس آيرس” في 12 يونيو 1935، والذي أوقف القتال رسميًا. لم تتوقف جهوده عند ذلك، فقد صاغ وطرح “معاهدة سافيدرا لاماس” الشهيرة عام 1933، التي حظيت بتوقيع 21 دولة، وجاءت لتدين اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل النزاعات الدولية، وتدعو إلى المصالحة والتحكيم.

جائزة نوبل من دون مراسم

في عام 1936، تلقى سافيدرا لاماس أرفع وسام يمكن أن يمنح لصانع سلام، حين أعلنت اللجنة النرويجية منحه جائزة نوبل للسلام. كانت هذه سابقة تاريخية، ليس فقط لأنه أول أرجنتيني يفوز بها، بل لأنه أول شخص من أمريكا اللاتينية يتوج بهذا الشرف. لكن التكريم جرى بصمت؛ فقد لم تعقد مراسم رسمية في أوسلو، بل اكتفى باحتفال صغير في منزله، في ظل توتر سياسي مع الرئيس خوستو، الذي شعر أن دوره في السلام لم يذكر بما يكفي.

ما بعد الأضواء: العودة إلى الجامعة

بعد مغادرته وزارة الخارجية عام 1938، عاد سافيدرا لاماس إلى العمل الأكاديمي، حيث كرس وقته للتدريس والكتابة. تناولت مؤلفاته قضايا القانون الدولي وحقوق الإنسان، وأصبح ينظر إليه كمثقف ملتزم بقضايا العدالة العالمية. لم يكن من أصحاب التصريحات النارية، بل من صناع التغيير الهادئ، ممن يؤمنون بأن السلام لا يولد من المنابر بل من طاولات الحوار.

توفي كارلوس سافيدرا لاماس في 5 مايو 1959 عن عمر يناهز 80 عامًا، بعيدًا عن الأضواء التي يستحقها. ومع ذلك، ظل اسمه محفورًا في تاريخ الدبلوماسية الحديثة، بصفته أحد أبرز من أثبتوا أن السياسة يمكن أن تكون أداة للسلام، لا للهيمنة.