كهف أفلاطون.. ونهاية الحضارة

كهف أفلاطون.. ونهاية الحضارة

بمناسبة ضرب الاحتلال الإسرائيلى سفينة مساعدات إنسانية عند مالطا كانت فى طريقها إلى غزة قبل أيام، تذكرت مشاركة الروائى البرتغالى الكبير جوزيه ساراماجو «١٩٢٢- ٢٠١٠» فى مؤتمر صحفى بمدينة رام الله فى ٢٠٠٢ التى ذهب إليها لدعم نضال الشعب الفلسطينى مع عدد من المثقفين من العالم كله، وحل أيامها ضيفًا على الشاعر الكبير وصديقه محمود درويش، قال إن ما يحدث من ممارسات جيش الاحتلال تجاه الشعب الفلسطينى يُشبه «أوشفيتز» فى إشارة للمعسكر النازى الذى ادّعى اليهود أن ملايين منهم ماتوا فيه.

وهنا حاولت صحفية ابتزازه قائلة: «لكن هنا لا توجد أفران غاز»، فرد بهدوء: «ما أقوله يتعلق بالفعل وليس بالاسم، وما يحدث هنا يصدر عن روح مماثلة للنازية وهذا واضح جدًا هنا»، وتابع فى رده يقول: «إن ما يحدث هنا جريمة ضد الإنسانية، وإذا كانت كلمة (أوشفيتز) تغضب الإسرائيليين، فعليهم أن يختاروا كلمة أخرى للتعبير عما أراه هنا، وعلى أى حال لن تكون أى كلمة أخرى لوصف ما يحدث هنا أقل بشاعة من وصف المحرقة النازية»، وأيامها أيضًا اقترح على «باراك أوباما» الذى كان يقول دائمًا إنه أب مثالى أن يحكى لطفلته قبل النوم قصة سفينة دمرتها إسرائيل كانت تنقل الأدوية لتخفيف الوضع الصحى المزرى لشعب غزة.

تذكرت ساراماجو الحاصل على جائزة نوبل سنة ١٩٨٨ هذه الأيام، بسبب غياب عدد من الأصوات المؤثرة من كبار وأدباء العالم، التى كانت تندد بالفاشية والنازية والعنصرية فى العالم كله وليس فى فلسطين فقط، مثل ماركيز وإدواردو جاليانو وغيرهما، نجوم الكتابة الآن يشاهدون الأخبار فى التليفزيون، ولكن لا أحد يتحدث، لأن الجوائز السخية التى يمنحها الغرب لنخبة هذا الزمان ستستبعد الأصوات الحرة التى تسمى الأشياء باسمها الحقيقى، عصابة تحتل دولة، وتنكل بشعب، ولا يوجد قانون دولى قادر على معاقبة هذه العصابة المدعومة بسلاح النظم الديمقراطية وإعلامها.

وفى الوطن العربى، أيضًا، هناك من يفعل هذا، وتفتح له الفضائيات استديوهاتها للتمهيد للاستسلام، وأيضًا لكى تزداد الأرصدة فى البنوك، لحظة فى تاريخ الإنسانية غير مسبوقة، خالية من النبل والفروسية والرحمة، لم يلهمهم نضال شعب كامل يباد على الهواء مباشرة، نحن نتحسر على غياب الأصوات الحرة التى تعرف أن الكتابة مسئولية، وأن الكاتب ينبغى ألا يخضع للابتزاز مثل السياسى. مرحلة كتب عنها ساراماجو «فى كل يوم تختفى أنواع من النباتات والحيوانات، مع اختفاء لغات ومهن. الأغنياء يزدادون غنى والفقراء دومًا يزدادون فقرًا، فى كل يوم توجد أقلية تعرف أكثر، وأخرى أكثرية تعرف أقل. الجهل يتسع بطريقة مخيفة حقًا، فى هذه الأيام نمرّ بأزمة حادة فى توزيع الثروة، فاستغلال الفلزات وصل إلى نسب شيطانية، الشركات المتعددة الجنسية تسيطر على العالم، لا أعرف إذا ما كانت الظلال أم الخيالات تحجب الواقع عنا، ربما يمكننا مناقشة الموضوع إلى ما لا نهاية، ما هو واضح حتى الآن هو أننا فقدنا مقدرتنا النقدية على تحليل ما يحدث فى العالم، إذ نبدو محبوسين بداخل كهف أفلاطون، لقد تخلينا عن مسئوليتنا عن التفكير والفعل، فقد حولنا أنفسنا إلى كائنات خاملة غير قادرة على الإحساس بالغضب، وعلى رفض الانصياع، والقدرة على الاحتجاج التى كانت سمات قوية لماضينا الحديث، إننا نصل إلى نهاية الحضارة ولا أرحب بنفيرها الأخير، إن مجمع التسوق (المول) هو رمز عصرنا، لكن لا يزال ثمة عالم مصغر ويختفى بسرعة، عالم الصناعات الصغيرة والحِرف، ففى حين أنه من الواضح أن كل شىء سيموت فى النهاية، ثمة أشخاص كثيرون لا يزالون يأملون فى بناء سعادتهم الخاصة، وهؤلاء آخذون فى التقلص، إنهم يرحلون مثل المهزومين، لكن كرامتهم محفوظة، يعلنون فقط أنهم ينسحبون لأنهم لا يحبون هذا العالم الذى صنعناه لأجلهم».

صاحب روايتى «العمى وكل الأسماء» قام بتشريح عقيدة المال أو الرأسمالية الجديدة فى روايته «الكهف» حيث قام ببناء مركز تجارى ضخم فوق كهف أفلاطون، «تحوَّل إلى معبد نظيف للحداثة فى وسط الوساخة». تخيل عالمًا للأغنياء فقط، فيه كل ما تحتاجه الطبقة الغنية على حساب طبقة مسحوقة من الفقراء ينكر الساسة والأثرياء وجودهم، الغريب أنه لا تتضمن شخصيات رواياته غنيًا واحدًا، لسبب بسيط هو أنه لا يعرفهم، ولا يعرف أن يتصرف كالأغنياء، وعقليته ليست عقلية شخص غنى «كما قال».

لآخر يوم فى حياته كان متأكدًا من انهيار الرأسمالية حتى لو بعد حين، وأن اليسار له مستقبل، وكان يرى أن الديمقراطية فشلت بسبب نفوذ الشركات متعددة الجنسيات، وصمتها أمام موت الناس من الجوع، وعاش يلعن الضمير السياسى الذى يقدم فيه المرشحون على طلب أصوات ناخبين ليس باستطاعتهم فهم البرنامج الانتخابى للحزب المرشح.