رحيل أم مثالية

رحيل أم مثالية

خبر رحيل سيدة مصرية منشور على صفحة جريدة واسعة الانتشار، سيمر عليه بعض القراء دون أن يلتفتوا إليه، إذ أن مثل هذه الأخبار لا تشغل كثيرين منا اليوم لسبب أو لآخر، في حين أن آخرين سيمرون على الخبر مرورًا عابرًا دون اكتراث باسم السيدة الراحلة أو وصفها أو تفاصيل نسبها.

أما بعض المحترمين من القراء فسيكتفون بدعاء عابر للسيدة، ويتمتمون بسورة الفاتحة على روحها الطاهرة.  لا لهؤلاء أو أولئك أكتب اليوم، إنما اكتب لمن يهتمون بالتفاصيل، للباحثين عن القدوة في حياتنا والعظماء في مجتمعنا، وسأكتفي بسرد ما أعرفه من فصول حكاية هذه السيدة الرائعة، دون اختراع تفاصيل لا أعرفها. في حين أن فصولًا كاملة من أحداث رواية هذه الأم الفاضلة قد نجدها عند أبنائها الستة.

لكن تفاصيل قصة العطاء وأيام التعب والجهد والعرق والدموع فقد ذهبت معها إلى حيث ترقد الآن لتشفع لها عند خالقها الذي يعلم كم تعبت وكابدت وتألمت حتى أدت رسالتها وأهدت للمجتمع خمسة رجال عظماء وسيدة كان منهم الباحث الأكاديمي والكاتب، ورجل القضاء النزيه، والخبير المصرفي، والموهبة الموسيقية والموظفة بوزارة الشباب، ورجل التعليم.
   أتحدث عن السيدة كوثر علي مطر، لأنني أعرف فصولًا من سيرتها بحكم صداقتي الوثيقة مع  ابنها الموسيقار والأكاديمي والكاتب دكتور طارق عباس.

هي أم مصرية مكافحة رزقها الله بستة أبناء كان من بينهم ثلاثة حرموا حاسة البصر، لكنهم لم يحرموا من نعمة البصيرة. تخيل كيف لأم من الطبقة المتوسطة أن تبتلى بشيء من هذا، غير أنها ترضى بقضاء الله، ولا تقضي أيامها في اللوم والتذمر، إنما تستثمر كل لحظة في إسعاد فلذات كبدها، وتقف سندا لزوجها وحضنا بل حصنا منيعًا يدفع عن احبابها ما قد يؤذيهم من أذى البشر: ماديًا كان أو معنويًا، قولا كان أو فعلًا، سخافة عابرة أو تنمرا متعمدًا. تغرس فيهم الإرادة ألا يكونوا رقمًا عابرًا، بل لاعبًا أساسيًا في بيئتهم ومجتمعهم، فينجحون في أن يصبحوا رقمًا مهمًا على مستوى الوطن 
تخيل عزيزي كيف كانت تتحمل هذه السيدة الفاضلة كأم ابتعاد أبنائها عن حضنها لتلحقهم بمدرسة داخلية خاصة بمتحدي الإعاقة البصرية، ثم كيف كانت تدخر لهم من قوتها ما تسعدهم به حين يعودون إليها في نهاية الأسبوع لتعوضهم أيام الفراق القصيرة امدا والطويلة كمدا.و كيف كانت تضن على نفسها بهذا القليل الذي تتحصل عليه، لتسعد به الأبناء حين يعودون إلى حضنها في عطلة نهاية الأسبوع. وهي في ذات الوقت توازن بين متطلبات أبنائها جميعًا سواء من كانوا معها أم الذين ابعدتهم عنها ظروفهم الخاصة، ورغبتها في تسليحهم جميعًا بسلاح العلم وقوة الإيمان.
ثم تحرص الأم أن يعيش أولادها حياتهم الطبيعية حين ينتهون من دراستهم الجامعية، بأن تبحث لهم عن زوجات فضليات يكن قرة أعين لهم ولها. وتحرص لسنوات طويلة أن تجمع حولها الأبناء، ثم الأحفاد في بيت واحد لقناعتها أن في اللمة عزوة يحتاجون إليها وتفرضها عليهم الحالة التي يعيشونها. وتشترك في تربية الأحفاد وتغرس فيهم قيمة التفوق والإصرار على النجاح حتى يكون أكبر احفادها اليوم أستاذا للطب في إحدى الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية.
و يتوفى عنها زوجها بعد أن يؤدي رسالته، لتبقى هي أما وأبا وملهمة لاحبابها وأبنائهم، يرجعون إليها في صغائر الأمور وكبارها، فلا تبخل بنصيحة ولا تضن بمشورة، ولكن دون فرض أو إجبار، فقد أنجبت رجالًا وأحسنت تربيتهم، لتترك لهم حرية اتخاذ القرار الذي يرون، مؤكدة عليهم ضرورة أن يتحملوا مسئولية اختياراتهم، فهي لن تبقى معهم للأبد. 
توزع الأم محبتها الغامرة ودعاءها الطيب على كل من يحيطون بها لاسيما أصدقاء أبنائها فتنزلهم منزلة الأبناء وتدعو لهم كما تفعل مع فلذات  كبدها، وكيف لا فقد كانت قناعتها كما غيرها من الأمهات أن من أحب أبنائي أحببناه ومن كرههم عاديناه.
و تمر الأيام ويصاب الجسد بالوهن وتأتي السنون على الذاكرة فتضعفها، لكنها وإن نسيت كل شيئ فليس لها أن تنسى أيا من احبابها الستة. وهم في المقابل لا ينسون لها ما قدمت وبذلت وضحت وسهرت وبكت وسعدت من أجلهم. 
و بعد رحيل هذه الأم العظيمة أتساءل: كيف لمثل هذه القصة العظيمة أن تمر عليها لجان اختيار الأم المثالية على مستوى الجمهورية دون أن تنال التكريم اللائق لتكون قدوة لغيرها من الأمهات وليتعلم من سيرتها من هم في نفس موقفها أو ما يشبهه ؟ ربما تكون قد نالت لقب الأم المثالية على مستوى محافظة الجيزة، ولكن ظني وأملي أن تدرج الدكتورة مايا مرسي وزيرة التضامن الاجتماعي اسمها بين المكرمات في عيد الأم من العام المقبل، واتمنى أن يكون هذا أمرا واردا رغم الرحيل. وسواء حظيت هذه الأم المثالية بما تستحق من تكريم أم لا، فإن التكريم الذي يبقى هو رحمة الله التي ندعو لها بها، وأن يسكنها الخالق الفردوس الأعلى من الجنة في مستقر رحمته ودار مقامته.