سها الشرقاوي: مستر ترامب… هل انتقدت الإعلام اليوم؟

سها الشرقاوي: مستر ترامب… هل انتقدت الإعلام اليوم؟

في تصعيد جديد لهجومه المستمر على وسائل الإعلام، وصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صحيفة وول ستريت جورنال بأنها “فاسدة”، واتهمها بـ”مساندة الصين”، وذلك خلال مشادة حادة مع أحد مراسليها. ولم يكن هذا المشهد استثناءً في علاقة ترامب بالإعلام، بل هو امتداد لمعركة طويلة خاضها منذ ظهوره السياسي، تجاوزت حدود النقد أو الاختلاف في التوجهات، لتأخذ طابعًا عدائيًا بلغ حد الاتهام بالخيانة والتواطؤ وتضليل الرأي العام.

 

منذ حملته الانتخابية الأولى، تعامل ترامب مع وسائل الإعلام كخصم مباشر يهدد شرعيته، وقدم نفسه ضحيةً لمؤامرة إعلامية تهدف إلى تشويه صورته وتقويض سلطته. وقد شكّل هذا التوجه التصادمي مفارقة لافتة، خاصةً وهو رئيس دولة تتبنى الحريات العامة وحقوق الإنسان كقيم محورية في خطابها السياسي.

 

المقلق في هذه المواجهة أن ترامب، الذي تَزعّم واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم، تبنّى خطابًا يتناقض بوضوح مع المبادئ الليبرالية التي تقوم عليها تلك الديمقراطية. فبينما تروّج الولايات المتحدة لحرية التعبير واستقلال الإعلام كمقومات أساسية لأي مجتمع حر، جاء الخطاب العدائي لترامب تجاه الصحافة ليعيد طرح تساؤلات جوهرية حول مدى التزام قادتها بتلك القيم حين تتعارض مع مصالحهم.

في عام 2019، اتهم ترامب صحيفة نيويورك تايمز بالخيانة الوطنية عقب نشرها تقريرًا عن تصعيد الهجمات الإلكترونية الأمريكية ضد روسيا. وفي عام 2017، وصف بعض وسائل الإعلام بـ”أعداء الشعب الأمريكي”، في تصريح أثار موجة استنكار واسعة لما ينطوي عليه من تهديد صريح لحرية الصحافة.

 

مؤسسات إعلامية بارزة مثل CNN، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، إلى جانب شبكات NBC، ABC، وCBS، كانت أهدافًا دائمة لهجمات ترامب، الذي اتهمها بالتحيز، ونشر الأكاذيب، وخدمة أجندات الحزب الديمقراطي والنخب الليبرالية.

 

ومن أبرز محاور هجومه، اتهام الإعلام بتشويه سمعته الشخصية وتضخيم الأزمات بهدف تقويض مصداقية إدارته، كما حدث في تغطية قضايا مثل التدخل الروسي في الانتخابات، أزمة جائحة كورونا، وإجراءات عزله. ورأى ترامب أن هذه التغطيات ليست إلا أدوات سياسية ضمن حملة منظمة لإسقاطه، وأن الإعلام الأمريكي فقد مهنيته وتحول إلى خصم سياسي مباشر.

 

اتهامات ترامب لم تتوقف عند حدود التشويه الإعلامي، بل طالت مؤسسات كبرى باتهامات بالخيانة الوطنية والتواطؤ مع قوى أجنبية. ففي موقفه من وول ستريت جورنال، اتهمها بدعم الصين، بينما اعتبر تقارير نيويورك تايمز عن الأنشطة الإلكترونية الأمريكية تهديدًا للأمن القومي. وهي اتهامات تنطوي على دلالات قانونية خطيرة، وقد تُستخدم لتبرير التضييق أو الملاحقة القانونية بحق الصحفيين.

 

وقد ترك هذا الخطاب التحريضي بصمة عميقة في الحياة السياسية الأمريكية، حيث أدى إلى تراجع الثقة في الإعلام التقليدي، خاصة بين أنصار ترامب، وفتح المجال أمام إعلام بديل تغذّيه نظريات المؤامرة والمحتوى الموجّه. وفي ظل ابتعاد شرائح واسعة من الجمهور عن المنظومات الإعلامية التقليدية، نشأت “فقاعات معلوماتية” تعرقل تكوين وعي جماعي، وتعمق الانقسام السياسي والاجتماعي في البلاد.

 

المواجهة بين ترامب والإعلام لم تكن مجرّد خلاف في الرأي أو تغطية غير متوازنة، بل معركة على الحقيقة ذاتها. فعندما يُتّهم الإعلام بالخيانة، ويُوصَف الصحفي بأنه عدو، تدخل حرية الصحافة منطقة الخطر. وبدلًا من تعزيز قيم الرقابة والمساءلة، تتحوّل العلاقة بين السلطة والإعلام إلى صراع وجود، يهدد أحد الأعمدة الأساسية للنظام الديمقراطي.

المفارقة أن ترامب، رغم هجماته المستمرة، لم يتوقف عن استثمار حضوره الإعلامي بذكاء لافت، مستغلًا وسائل الإعلام لنشر رسائله وإثارة الجدل وكسب التعاطف السياسي. هذا التناقض بين العداء العلني والتوظيف العملي يعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين الشعبوية والإعلام في العصر الحديث.

 

في خضم كل هذ الانتقادات الترامبية، يبرز سؤال.. ماذا لو أن رئيسًا آخرًا وجّه الاتهامات نفسها لوسائل الإعلام؟، هل كانت صحافته ستتعامل مع الأمر كقضية جوهرية تمس حرية التعبير، أم ستكتفي بالتعامل معه كخبر عابر؟.