الإيجار القديم يا حكومة

الإيجار القديم يا حكومة

بحكم عملى الصحفى والإعلامى، أتابع عن كثب مجريات المشهد وتعقيداته، فيما يخص مشروع القانون الذى تقدمت به الحكومة بشأن الإيجار القديم، وبعد التمعن فى تفاصيله، أستطيع أن أقول، وبلا مواربة، إن تطبيق هذه النصوص على حالها يُشبه محاولة الإمساك بالماء، بل يكاد يكون ضربًا من رابع المستحيلات.لقد كشفت ردود الأفعال الشعبية والنيابية عن ملامح كارثة اجتماعية وشيكة، تلوح فى الأفق إن لم نتدارك الأمر بحكمة وتعقل، فالنصوص المقترحة لا تهدد فقط أصحاب العقود، بل تمس أحد أعمدة الاستقرار الداخلى فى لحظة فارقة تمر بها الدولة، وسط عواصف إقليمية ودولية تُلقى بظلالها القاتمة على الداخل المصرى.مجلس النواب من جانبه يواصل عقد جلسات الحوار المجتمعى، وقد سمعت خلال هذه الجلسات أصواتًا عاقلة، تحمل منطقًا يُجبر المستمع على التوقف، سواء من المواطنين البسطاء أو ممثليهم من النواب أو حتى بعض المسئولين.وتشير بيانات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء إلى أن ملايين الأسر المصرية تقيم فى وحدات سكنية بنظام الإيجار القديم، أغلبها فى مناطق شعبية أو متوسطة الحال، وأوضاعها الاقتصادية لا تحتمل أن تلقى فجأة فى وجه العاصفة، فى ظل تصاعد غير مسبوق فى أسعار الإيجارات الجديدة وتكاليف التمليك، مما يجعل الحديث عن إخلاء خلال خمس سنوات، دون بدائل واضحة أو ضمانات إنسانية، أشبه بإعلان صريح لحالة تشريد جماعى.إننى لا أنكر مشروعية مطالب الملاك، الذين طال صبرهم على عوائد إيجارية مجحفة، لا تمت بصلة لقيمة العقار، لكن العدالة لا تكتمل إن قامت على أنقاض الأمن والسلم الاجتماعى، ولا تُبنى الحقوق القانونية بمحو الحقوق الإنسانية، فذاك المستأجر الذى قضى فى مسكنه عقودًا، رمّمه وسكنه كأنه ملكه، يستحق من الدولة نظرة إنصاف لا قرار طرد.وإذا ما أصرت الحكومة على تمرير مشروعها بصيغته الراهنة، فعليها أن تتحمّل كلفة خياراتها كاملة، وما قد يترتب عليها من تبعات سياسية واجتماعية جسيمة، قد تصل إلى حدود اهتزاز ثقة الشارع فى الحكومة نفسها، فلا يليق بالحكومة أن تصمّ آذانها عن أصوات المواطنين وكأنها تسمع بـ«ودن من طين وودن من عجين».إن معالجة أزمة الإيجار القديم لا تكون بافتعال مأساة جديدة، ولا يجوز أن تُوصم هذه الحكومة بأنها حكومة تشريد المواطنين من مساكنهم، ولا أن تتحول إلى خصم من الحقوق الدستورية فى السكن الكريم، فإذا كانت النية صادقة لإيجاد حلول، فالحلول كثيرة، أقربها إلى الواقع، أن تبدأ الحكومة بتحرير عقود الوحدات المغلقة، التى تُعد عبئًا غير مبرر على سوق الإسكان، وأن تُراجع حالات التوريث غير الدستورية للوحدات السكنية، خاصة بعد ما صدر من أحكام نهائية عن المحكمة الدستورية العليا فى هذا الشأن.كما يمكن أن يتم الاعتماد على رفع القيمة الإيجارية وهو ما سيرضى نسبة كبيرة من الملاك دون أن يؤدى إلى تشريد المواطنين المستأجرين، وهو يعد تنفيذًا لحكم المحكمة الدستورية الأخير الخاص بعدم دستورية ثبات القيمة الإيجارية.أما إذا صممت الحكومة على تحرير العقود الإيجارية كافة، فلا بد أن يصدر توجيه للإدارات المعنية فى المحليات وكذلك أجهزة المدن وكل الجهات المعنية لإجراء دراسة للحالات التى لا يجوز تحرير عقودها، ومن المؤكد أنهم كثر ويستحقون نظرة من الحكومة.فالحل لا يكمن فى الهدم الكلى، بل فى الإصلاح المتدرج، الذى يُعيد التوازن بين حق المالك وكرامة المستأجر، دون أن يتهاوى البناء الاجتماعى فى خضم صراع قانونى أعمى لا يرى الناس، بل يرى العقود فقط.