اختزال ساذج لمعادلة معقدة فى مسألة شائكة!!

اختزال ساذج لمعادلة معقدة فى مسألة شائكة!!

تحوّل الحديث عن السلام فى السياق الفلسطينى- الإسرائيلى من كونه خيارًا سياسيًا مطروحًا إلى طموح مؤجل، إن لم يكن وهمًا بعيد المنال. لم يأتِ هذا التحوّل من فراغ، بل هو نتاج تراكمات تاريخية معقدة، وتشابكات سياسية طويلة، واختلال صارخ فى موازين القوى.من البديهى أن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، لا ترى فى السلام مصلحة استراتيجية أو وجودية. فالسلام الحقيقى يتطلب منها تنازلات ملموسة تتعلق بالأرض والسيادة والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، وهى أمور تتناقض مع جوهر المشروع الصهيونى التوسعى والاستيطانى. من هنا، لم يكن مفاجئًا أن تعتمد تل أبيب سياسات المماطلة، وتفرغ المبادرات الدولية من مضامينها، وتستثمر التحولات الإقليمية والدولية لتعزيز مكاسبها على حساب الفلسطينيين.فى المقابل، ورغم أن الطرف الفلسطينى هو صاحب الحق، إلا أنه الطرف الأضعف فى المعادلة، ما يجعله مضطرًا لخوض مساعٍ سياسية شاقة ومستمرة تصطدم بعقبات متكررة. ولعل أبرز تلك العقبات يتمثل فى تشتت المواقف العربية والدولية، والانقسامات الفلسطينية الداخلية، التى غالبًا ما تُعيق أى تحرّك حقيقى نحو تسوية عادلة. ونتيجة لذلك، لم تُمنح أى مبادرة جادة الفرصة لاختبار النوايا الإسرائيلية بصورة فعلية.فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، هيمنت شعارات ثورية رافضة للتسوية، مثل «لا سلام ولا استسلام»، والتى كانت تعبّر عن المزاج العام فى العالم العربى آنذاك. وقد أدى هذا التوجه إلى إجهاض محاولات التمييز بين «التسوية السياسية» و«التصفية الوطنية»، مما أضعف فرص بلورة مشروع تفاوضى وطنى متماسك.وفى خضم هذه المعادلة المعقدة، يطرح سؤالٌ محورىّ نفسه بإلحاح: هل يُمثّل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، العقبة الأساسية أمام تحقيق السلام، أم أن ما نشهده هو انعكاس لتوجهٍ أعمق متجذّر فى البنية الصهيونية ذاتها؟
الإجابة لا تقتصر على شخص نتنياهو، رغم كونه من أبرز رموز اليمين المتطرف فى إسرائيل. فاستمراره فى الحكم وصعوده المتكرر لا يمكن تفسيرهما بأسباب شخصية فقط، بل يعكسان تحولات بنيوية فى المزاج الإسرائيلى، الذى انزاح تدريجيًا من الوسط واليسار إلى اليمين، ثم إلى أقصى اليمين. وقد عزّز هذا التحول صعود النزعات القومية، والاعتماد المتزايد على المقاربات الأمنية والعسكرية.
بالتالى، فإن العقبة الحقيقية أمام السلام لا تختزل فى شخص نتنياهو، بل تمتد إلى البنية الأيديولوجية للحركة الصهيونية، التى تنظر إلى الأرض كل الأرض كـ«حق تاريخى»، وترى فى أى سلام لا يُفرض بشروطها تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية. حتى إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، التى اتُهمت بالانحياز الكامل لإسرائيل، لم تجد فى نتنياهو شريكًا مستعدًا لتقديم خطوات حاسمة. فقد لجأ ترامب إلى اتخاذ إجراءات أحادية تهدف إلى تعزيز المصالح الأمريكية، فى ظل مماطلة إسرائيلية واضحة تجاه قضايا مفصلية، من أبرزها تطبيع العلاقات مع السعودية، التى ربطت خطوتها بوقف الحرب على غزة، وتقديم ضمانات واضحة لحل الدولتين.
فى المحصلة، لا يزال السلام ممكنًا من حيث المبدأ، لكنه بات بعيد المنال فى ظل غياب إرادة سياسية حقيقية، واختلال ميزان القوى، وتراجع الضغط الدولى الفعّال، أما اختزال العقبة فى شخص نتنياهو فليس إلا تبسيطًا ساذجًا لمعادلة معقدة تتداخل فيها اعتبارات التاريخ والعقيدة، والمصالح والتحالفات، والتطرف والاستراتيجيات بعيدة المدى.