حراس التراث.. حرفيون على درب الأجداد: نحافظ على «الصنعة» من الاندثار

الذهب لا يصدأ أبدًا ولا يفقد بريقه مهما مر الزمان.. هكذا هى المهن والحرف التراثية التى تُزين شوارع مصر، وتحفظ معها إرثًا قديمًا، يحمله الأحفاد حتى هذه اللحظة احترامًا لتراثهم، ويمثلون بها امتدادًا لمسيرة آبائهم وأجدادهم، لتبقى الصنعات التراثية محافظة على حضورها وسط ثورة التكنولوجيا، حاملة معها ملامح الأصالة والعراقة والتاريخ الثرى.وفى حديثهم إلى «الدستور»، يكشف حرفيو التراث فى عدة مجالات عن أسباب استمرارهم فى صنعة أجدادهم، رغم التطور التكنولوجى الذى أفقدها كثيرًا من بريقها، والأجهزة الحديثة التى فرضت الاستغناء عما كان يعد قديمًا من الضروريات، مؤكدين سعيهم لتوريث صنعتهم وحرفهم لأبنائهم، لضمان الحفاظ على إرث الماضى وبقائه فى الحاضر والمستقبل. عم جمال: الرفا تحتاج إلى صفاء ذهنى وتركيز لإصلاح عيوب الملابستعتبر «الرفا»، أو تصليح الملابس الممزقة، من أصعب الحرف القديمة التى يمتهنها عدد قليل من الحرفيين المصريين، لكونها تحتاج إلى تركيز وحرفية عالية، لتطريز ولضم الخيوط بعضها ببعض، مع الحرص على عدم ظهور آثارها على قطعة القماش المستهدف تعديلها.ومن بين أسطوات هذه الحرفة التى تحارب الانقراض، كغيرها من الحرف القديمة الأخرى، يوجد الحاج «جمال رفا»، وهو رجل سبعينى يعد من أقدم صنايعية «الرفا» فى مصر.فى محله الصغير بمنطقة شارع المحطة، قال لنا «عم جمال»: «الرفا وتلافى عيوب الملابس من أقدم الحرف المصرية، وأصعبها فى نفس الوقت، بسبب احتياجها لصفاء ذهنى وتركيز شديد جدًا خلال تطريز القطع وإصلاح العيب المراد إصلاحه».وأوضح: «عملت بهذه الحرفة منذ ٦٠ عامًا، كصبى فى محل ترزى شهير بمنطقة باب اللوق، ثم محل رفا متخصص فى منطقة المنيرة، ومع مطلع الثمانينيات قررت الاستقلال بذاتى وفتح هذا المحل الصغير، الذى أستقبل به زبائنى بابتسامة دائمة مع تحديد موعد زمنى لتسليم ملابسهم عقب تصليحها».وأشار إلى أن «الرفا» أصبحت قليلة جدًا هذه الأيام، لكنها ما زالت تقاوم الاندثار، خاصة أن بعض الناس يرغبون فى الاحتفاظ بملابس معينة، تحمل لهم ذكريات خاصة، لذا يحاولون إصلاحها وتعديلها وعدم تركها، لافتًا إلى أن حرفته توجد بها خبايا كثيرة تتعلق بعملية التصليح والترقيع، وتمثل بالنسبة له «سر الصنعة»، الذى يعتز به ويحتفظ به لنفسه.الأسطى رمضان:تلميع الأوانى الفضية يزدهرفى الأعياد والأفراح فقطفى أحد أركان حى الأزهر العتيق، تختبئ ورشة صغيرة لا يعلو صوتها على ضجيج الشارع، لكنها تنبض بتاريخ طويل.. هنا، فى زقاق يدعى «باب الزهومة» بداخل شارع المعز لدين الله الفاطمى، يقف الأسطى رمضان هاشم، رجل تخطى الخمسين من عمره، لكنه يحمل قلبًا شابًا ويعرف أسرار حرفة توشك على أن تودعنا إلى الأبد.وسط الأدوات القديمة، وأحواض مائية تعكس بريقًا خافتًا، يحافظ «رمضان» على مهنة تلميع الأوانى الفضية، كأنها كنز عزيز لا يريد له أن يضيع، يقول بابتسامة ممزوجة بالفخر والحنين: «بدأت فى تعلم المهنة حينما كنت طفلًا.. علمتنى أمى ألا أمد يدى لأحد، فالعمل شرف، لحقت بورشة كانت تتعامل مع كبار القوم، باشوات وهوانم، وكانت الأوانى الفضية زينة البيوت، والطلب لا ينقطع».وأضاف: «فى مطلع الثمانينيات افتتحت ورشتى الخاصة، غير أن بريق المهنة بدأ يخفت، لأن دوام الحال من المحال، ولم تعد الأوانى الفاخرة تحتل مكانتها فى البيوت الحديثة»، ويشرح بأسى: «تحولت المهنة من شريان حياة إلى موسم عابر، يأتى الزبائن فقط فى الأعياد والأفراح، وعندما تنقضى المناسبة يعود الصمت للورشة من جديد».ورغم كل ذلك، لا يزال رمضان ممسكًا بخيوط الضوء، يقف إلى جوار الحوض الكهربائى، يخلط محلول الفضة، يراقب الأوانى وهى تستعيد لمعانها، ثم يجففها بنشارة الخشب بخفة يد وحرفية نادرة، كل وعاء يعود للحياة، تمامًا كما يحاول هو أن يبقى على حياة مهنته.«الفضة ما بتموتش، بس الناس نسيوها»، يقولها وكأنه يوجّه رجاء لأجيال لم تعد ترى فى الحرفة سوى تعب بلا مردود، لكن من يعرف؟ ربما يأتى يوم تقدر فيه الأيدى التى صنعت الجمال، ويحمل أحدهم الشعلة من بعد الأسطى رمضان.عم عادل:«التكفيت» قوة مصر الناعمة.. وورَّثت المهنة إلى ابنىفى شارع المُعز بالقاهرة الفاطمية، يجلس «عم عادل» فى ورشته، وإلى جواره رفاقه فى مهنة «التكفيت» ينتشرون فى طرقات لا تنتهى، وأدوات تحفر بين قطع النحاس، لتُحوّلها إلى أشكال ومقتنيات على طراز الأجداد.وبعد أشهر طويلة يستغرقها العمل فى بعض القطع، تكتمل الصنعة المُرهقة، التى يستمتع أصحابها بها، ويُثابرون ويبدعون من أجل لحظة الاحتفال بمولود جديد، فى حرفة يمتد تاريخها الى أكثر من ١٠٠٠ عام.«وأنا هنا، أنبهر بكل قطعة يتم تصنيعها.. أرى قطعة النحاس وأتابعها كل يوم وأشاهدها إلى أن ينتهى العمل فيها وتصبح قطعة فنية تتحدث عن عظمة مصر والفن المصرى على مدار الأجيال، ومثلما لدينا فى متحف الفن الإسلامى قطع منذ ألف عام، فأتمنى أن يكون أحفادنا وأحفاد أحفادنا امتدادًا لأجدادنا فى صنعتهم».. هكذا يقول عم عادل جمعة، مضيفًا أن فن «التكفيت» يعد من «القوة الناعمة» لمصر.يشير لنا حامل مهنة الأجداد إلى التحف الفنية التى يشكلونها بدقة فى ورشتهم فى الحى التاريخى بالقاهرة، مضيفًا أنها تعبر عن الفن الإسلامى والفن العربى، ومن بين التحف التى يصنعونها نسخ طبق الأصل لمفتاح الكعبة المشرفة، وأوانٍ على الطراز الإسلامى، وصناديق، وأشياء تتشكل حسب طلب الراغبين فى اقتنائها.. ويقول: «يكفى أن تتخيل هنا؛ لتتشكل لك قطع النحاس المطعّمة بالفضة، ليقترنا معًا ويُشكلا رسومًا وحكايات ترويها الفنون على صنيع أيديهم».ورِث «عم عادل» مهنته من أبيه وأجداده، ويُصر الرجل على الحفاظ عليها رغم غلاء المعادن والخامات، وحاليًا يعمل معه ابنه «صهيب»، الذى يتجهز هو الآخر لحمل راية «فن التكفيت» عن عائلته، ليسلمها بدوره هو الآخر لأبنائه، لتستمر واحدة من أهم المهن التراثية التى تحترفها الأيادى المصرية.عم صابر:تعلمت تصليح «وابور الجاز» من عائلتى.. والبوتاجاز أثر علينا بالسلبفى شارع سعد زغلول بالجيزة، يوجد صابر زكى، آخر صنايعية تصليح «وابور الجاز»، وهو رجل ستينى، يجلس فى محله البسيط وسط عدد كبير من هياكل معدنية تنتظر دورها فى التصليح.عن عمله قال «عم صابر»: «أعمل بهذه الصنعة وراثة عن أجدادى، فنحن نعمل بها منذ عشرينيات القرن الماضى، وكان وابور الجاز فى ذلك الوقت هو وسيلة الطهى الوحيدة فى المنازل، وأيضًا يستخدمه البعض فى التدفئة أثناء فصل الشتاء».وأضاف: «مع توالى السنوات والتطور الذى حدث، ظهر البوتاجاز واندثر الوابور بصورة كبيرة، وأصبح من يقتنيه فى كل منطقة عدد قليل قد لا يتخطى أصابع اليد الواحدة، وأصبح الاستخدام بهدف التدفئة فقط، خاصة أن الوابور يحتاج إلى معاملة شديدة الحساسية، بسبب الدخان الناتج عنه، وأيضًا بسبب أعطال (الفونيا) ورواسب الاشتعال المتراكمة، التى قد تؤدى إلى كارثة إن لم ينتبه لها صاحبه».وأشار «عم صابر» إلى أنه مع ظهور البوتاجاز العادى والمسطح والصغير أو الشعبى، كما يطلق عليه، والذى يستخدم فى المحلات والرحلات بسبب صغر حجمه، اضطر للعمل فى تصليح تلك الأشياء التى أصبحت رائجة أكثر من الوابور الذى يقل الطلب عليه مع مرور الوقت، باستثناء بعض فترات الشتاء، وذلك لمن يحب التدفئة على شعلته حتى الآن.عم عبدالعظيم:صناعة القبقاب.. فن وعبادةفى قلب شارع الغورية العريق، خلف أبواب دكان قديم نسج الزمن خيوطه فوق جدرانه، يجلس «العم عبدالعظيم»، آخر من يصنع القباقيب هناك، يحرس مهنة اقتربت من الانقراض، وسط رائحة الخشب يتحرك الرجل السبعينى كأنما الزمن قد نسيه هنا، يواصل حرفة بدأت معه قبل نصف قرن، حينما كان مجرد صبى يناول شيخه فى الورشة مسمارًا أو قطعة خشب. يجلس «العم عبدالعظيم» دون لافتة تعلن عن دكانه، ولا إعلانات لتسويق بضاعته، فقط صوت المطرقة هو ما يرشد الزائرين إليه.. من خشب الشجر يصنع القباقيب.يبدأ بتقسيم قطعة الخشب إلى نصفين متساويين، ثم يحفر نعله، قبل أن يثبت عليه رباطًا مصنوعًا من إطارات السيارات.. يحكى عن مهنته مفتخرًا: «دى مش صنعة.. دى فن وعبادة».ورغم أن خطوات الصناعة لم تختلف كثيرًا، فإن أسعار الخامات ارتفعت: «الخشب غالى والكاوتش نادر والزباين أقل.. القبقاب كان بجنيهين، دلوقتى بعشرة، وبرضه الناس بتقول غالى».. يقول ذلك والابتسامة لا تفارق وجهه، كأنها مزيج من الحنين والرضا، وربما القلق.وأضاف: «أصبح القبقاب لا يُستخدم ولا يطلبه أحد. فقط فى المواسم (من رجب إلى رمضان) يكون هناك طلب ويقل تدريجيًا كل عام. يقبل أهل الخير على شرائه كصدقة للمساجد»، موضحًا: «القبقاب مابيزحلقش وعازل للرطوبة ورخيص.. وبيعيش».ولفت إلى أنه لا أحد يريد تعلم المهنة: «أبنائى رفضوا إكمال المسيرة، ورفاقى تقاعدوا، وبعض الورش أغلقت إلى الأبد».وحكى عن أنه ذات يوم، أثناء تقطيع جذع خشبى، خرج ثعبان من داخله، ترك رعبه فى القلوب، ورغم ذلك لم يفكر فى ترك المهنة: «الشغلة دى هاتنقرض زى الطرابيش، بس طول ما أنا عايش، هافضل أعمل القبقاب، حتى لو مفيش حد هيكمل بعدى».فى زمنٍ يبتلع الحرف واحدة تلو الأخرى، يظل «العم عبدالعظيم» واقفًا فى دكانه، ممسكًا بمطرقته كأنه يقاوم الانقراض وحده.عم عطوة:عملات الزمن الجميل.. كنوز يحج إليها الناس فى العتبةداخل محيط ميدان العتبة فى القاهرة القديمة، حيث يتوافد الناس من جميع محافظات مصر ومن الدول العربية، يقف عم عطوة حسين يبيع العملات القديمة.سنه ٦٤ عامًا، وبحوزته عملات نادرة يعود تاريخها لمئات السنوات، وتتجاوز أسعارها آلاف الجنيهات، ولا يعتبر نفسه بائعًا فقط، بل أحد عشاق وهواة جمع العملات القديمة.يقول العم عطوة: «أبدأ يومى بعد صلاة العصر، أشترى العملات وأبيعها، وأحافظ بذلك على التراث».وأضاف: «بدايتى كانت فى بيع التحف والأنتيكات النحاس، ثم بدأت فى بيع العملات الورقية والمعدنية، ثم تحولت الهواية إلى احتراف».وتابع: «أنا فى الشغلانة دى من ١٥ سنة، اخترتها وأحببتها.. أنا أعشق العملات المصرية القديمة، فترة الملكية وعهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والزعيم محمد أنور السادات.. فى الماضى كان كل شىء جميلًا».ولفت إلى أنه يمتلك عملات نادرة قيّمة، تعود للعصور الإسلامية القديمة، ويملك ريالًا صنع فى مصر، من الفضة، فى أيام السلطان عبدالحميد الثانى ١٨٨٦م، وكذلك ريال السلطان حسين كامل بين ١٩١٦ و١٩١٧، وريال السلطان فؤاد المصنوع من الفضة الخالصة ١٩٢٠، وأيضًا ريالات فؤاد الملكى، لأن الملك فؤاد كان سلطانًا لمدة سنتين ثم أصبح ملكًا، إضافة إلى ريال ابنه الملك فاروق».وأوضح: «كنت أجمع العملات القديمة من الأسواق، مثل سوق الجمعة فى السيدة عائشة وسوق الخميس فى المطرية، وعن طريق مزادات فى وسط البلد كل ثلاثاء وخميس. والعملات القديمة لها قيمة ثقافية وتاريخ لمصر كلها».