فؤاد حداد… والد الشعراء الذي ما زال يمنحنا الجديد

فؤاد حداد… والد الشعراء الذي ما زال يمنحنا الجديد

ليست هناك عبارة أصدق من أن نقول إن فؤاد حداد لم يكتب عن مصر، بل كتب من داخلها. لم يكن شاعرا يصف الخارج من موقع المراقب، بل عاشقا يخوض في كل تفصيلة، وكأنه جزء من ذاكرة البلد وروحها المتخفية في الأزقة، في الأصوات، في وجوه الحرفيين، في فواصل الحزن الشعبي، وفي مواويل الفرح المنكسر.
ولد فؤاد حداد في حضن ثقافة مركبة، أب شامي وأم مصرية، لكنه انتمى لمصر انتماءً عميقا، حتى صار أحد أهم أصواتها في الشعر العامي. لم يكن شاعرا مناسباتيا، بل كان شاهدا على العصر، وراويا لسيرة الناس البسطاء الذين كثيرا ما أغفلهم الأدب “الرسمي”.
ما فعله فؤاد حداد هو ما حاولت أن تفعله كتب الأنثروبولوجيا: رصد تفاصيل المجتمع المصري، لا كظواهر اجتماعية جافة، بل كبنى حية تتنفس داخل القصيدة. في شعره، لا تمر على “قهوة بلدي” دون أن تشم رائحتها، ولا على “مكوجي” دون أن تلمس المكواة في يده. صوته يأتيك مشبعا برنين السوق الشعبي، وأهازيج الباعة، وخناقات الحواري.
يكتب حداد عن القرية وكأنه عمدة يعرف أسماء العائلات، وعن المدينة كصبي عتالة يعرف أين تحمل الأحلام وأين تفرغ. لهذا حين تقرأه تشعر أنه يتحدث عن بلدك، عن شارعك، حتى لو لم تزر هذه الأماكن قط. كان يملك حاسة التقاط التفاصيل المنسية وتحويلها إلى شعر خالد.
ما يميز حداد عن غيره ممن “يتعاملون” مع التراث، أنه لم يستحضره كمادة جمالية أو زخرف لغوي، بل تفاعل معه بعفوية الكائن المتصالح مع جذوره. في قصائده نجد اللغة القرآنية إلى جوار الأغنية الشعبية، ونجد الحكمة الصوفية إلى جوار المثل البلدي. لم يخن التراث، بل استخدمه ليعيد توجيه البوصلة نحو الإنسان.
ومن أروع ما قدمه حداد، برنامجه الشعري الرمضاني “المسحراتي”،هذا البرنامج لم يكن فقط مديحًا رمضانيًا أو فقرات تسلية، بل موسوعة اجتماعية متنكرة في زي القصيدة. تحدث فيه عن المهن الصغيرة قبل الكبيرة،، عن “الشقيانين” الذين يصنعون مصر الحقيقية.
أعطى حداد لكل مهنة حقها في الشعر، منحها قيمة وكرامة، وجعل من المسحراتي ضميرا مجتمعيا يوقظ الناس لا للسحور فقط، بل للحياة، للوعي، للانتباه.العجيب أن قصائد حداد، رغم مرور عقود، تبدو وكأنها كُتبت اليوم. لا تبلى، لا تشيخ، لأنها مشبعة بحب الناس. حين نعيد قراءته، لا نقرأ “ماضينا”، بل نقرأ احتمالات المستقبل في لغة الماضي. هو من الشعراء النادرين الذين يجعلوننا نتحسس ضميرنا، ونراجع علاقتنا بالمكان الذي ننتمي إليه، وباللغة التي نحكي بها، وبالناس الذين هم “نحن” مهما أنكرنا.
فؤاد حداد، لم يكن أبا فقط لجيل من المجددين، بل أبا لشعر يعرف معنى الوطن، ويعرف كيف يحكيه كحكاية لا تنتهي.