جامعة الغذاء.. من الصحراء إلى آفاق مستقبل الأمن الغذائي الرقمي

الغذاء هوأساس الحياة، بل هو الحياة بأسرها، طعام وشراب أهل الجنة، منح الله سيدنا آدم عليه السلام نعيم الجنة كل ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين قال تعالي في وصفها ” فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ “، وقال سبحانه وتعالي لآدم:” وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ” ومن شدة جمال الجنة وزينتها ونعيمها خاف آدم من زوالها ” فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ “، ” وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ “، ” فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٍۢ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ “، ثم أمرهم الله بالهبوط إلي الأرض ” قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًۢا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ “.
وقد ارتبط الغذاء بالدين والسياسة والثقافة، فمن الناحية الدينية: أنزل الله علي بني اسرائيل المن والسلوي، قال سبحانه “وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ ” إلا أن النفوس اللئيمة أبت الرغد من العيش ” وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ “، وقد أيد الله سيدنا عيسي عليه السلام بالعديد من المعجزات منذ مولده بدون أبٍ وكلامه في المهد بإذن الله تعالى وذلك لتبرئه أمّه، بل والكثير من المعجزات قالي سبحانه وتعالي:” وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين”، إلا أن الحواريون لم يقتنعوا بتلك المعجزات وطلبوا مائدة من السماء ” إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ”، وقد ظهرت حكمة سيدنا يوسف عليه السلام في استقراء المستقبل بناءً على الرؤيا التي فسرها ووضع خطة محكمة لمواجهة سنوات القحط القادمة تقوم على أساس الادخار المنظم للطعام في سنبله ليحفظه أطول فترة ممكنة ويمنع تلفه “قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ”، ثم طلب سيدنا يوسف لنفسه الولاية “قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” وطلبه للولاية لم يكن طمعًا في السلطة أو جاهًا، بل كان نابعًا من إدراكه لقدرته على إدارة موارد البلاد وحماية شعبها من المجاعة القادمة. فقد كانت حكمته مزدوجة: حكمة التنبؤ والتخطيط، حكمة القيادة والإدارة.
كما ارتبط الغذاء بالسياسة والحروب، ففي عام 30 ق.م ماتت كليوباترا وكانت أحوال مصر غير مستقرّة ويُمكن الاستيلاء عليها، احتلت الرومان مصر واستخدموها كوسيلة للحصول على الحبوب والخبز لعدّة قرون. حتى أن المنطقة كانت تسمّى “سلة الخبز” بسبب ثروتها من الحبوب. وفي القرن الثامن عشر وعلى خلفية ثورات الجياع التي شهدتها كل من باريس ولندن آنذاك، بنى القس والفيلسوف الإنجليزي روبرت مالثوس نظريته التي تقول بأن الموارد الطبيعية للكرة الأرضية لا تكفي سوى لإطعام عدد معين من الأشخاص، وإذ ازداد عدد سكان الأرض عن هذا الحد، فإن المجاعات والأوبئة والحروب ستكون كفيلة بتقليص عددهم إلى الحد المطلوب. بل أن الخبراء في مجال الغذاء والزراعة يحذروا من صراعات وحروب علي الغذاء والمياة، يقول الرئيس التنفيذي لشركة Olam Agri سوني فيرجيز، وهي شركة تجارة زراعية مقرها سنغافورة، “: “لقد خضنا حروبًا كثيرة على النفط. وسنخوض حروبًا أكبر على الغذاء والمياه”.
ونظرا لتسارع وتيرة التغيرات المناخية والتحديات الديموغرافية، فقد استوردت مصر سلعًا تموينية استراتيجية بقيمة 11.5 مليار دولار، ولحوم ودواجن وأسماك بقيمة 1.2 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، مقابل 11.26 مليار دولار في الفترة نفسها من العام السابق، الأمر الذي جعل التفكير في مستقبل الغذاء ضرورة ملحة. اقترحت د. رشا شرف الأمين العام لصندوق تطوير التعليم تأسيس نموذج تعليمي جديدة فريد من نوعه وهي”جامعة الغذاء” كمفهوم يتجاوز حدود الزراعة التقليدية، ليشق طريقه نحو آفاق مستقبلية مبتكرة، مستفيدًا من كنوز الصحراء وتقنيات المياة الذكية. وبالفعل وافق مجلس إدارة صندوق تطوير التعليم برئاسة د. مصطفي مدبولي رئيس مجلس الوزراء بجلسته رقم 44 بتاريخ 19 ديسمبر 2024 علي إنشاء الجامعة، وتتضمن الجامعة تخصصات مبتكرة ” تكنولوجيا المياة، الإنتاج الحيواني، الصناعات الغذائية، الزراعة الذكية” الدرون والروبوتات والاستشعار عن بعد والاقمار الصناعية في الزراعة والحساسات وغيرها من تكنولوجا الميكنة الزراعية، سلامة الغذاء” وقد لقيت الفكرة استحسانا وانبهارا من قبل المتخصصين في هذا المجال أمثال إتحاد الصناعات الغذائية واتحاد الغرف التجارية، والهيئة العامة للاستثمار وبعض سفراء الدول العربية والأوروبية الذين أكدوا علي ضرورة السرعة في تنفيذ الجامعة لاحتياج سوق العمل إلي خريجين مدربين ومؤهلين في كافة الصناعات الغذائية.
فقد تبدو الصحراء للوهلة الأولى قاحلة وغير منتجة، لكنها في الواقع تخبئ إمكانيات هائلة لم يتم استغلالها بشكل كامل بعد. فبواطنها تختزن مياهًا جوفية يمكن إدارتها بكفاءة، وشمسها الساطعة توفر طاقة متجددة لا تنضب. بالإضافة إلى ذلك، تزخر الصحراء بنباتات فريدة قادرة على التكيف مع الظروف القاسية، والتي يمكن أن تكون مصدرًا لأغذية وعلاجات جديدة. كما أن تطوير سلالات نباتية مقاومة للملوحة والجفاف، باستخدام التقنيات الحيوية والهندسة الوراثية، يفتح آفاقًا جديدة لزراعة مستدامة في هذه البيئات الصعبة، يمكن أن يحول أجزاء من الصحراء إلى واحات خضراء منتجة.
إن “جامعة الغذاء” ليست مجرد فكرة مجردة، بل هي صرح علمي طموح ورؤية متكاملة تجمع بين استغلال مواردنا الطبيعية بكفاءة، وتبني أحدث التقنيات، وتطوير حلول مبتكرة للتحديات الغذائية المستقبلية. إنها منصة للتحول الرقمي في مجال الغذاء ودعوة للبحث العلمي والتعاون بين الجامعات المصرية والدولية والمؤسسات البحثية والقطاع الخاص، وتبادل الخبرات في عصرنا الرقمي. والعمل على بناء “فقرة رقمية” متكاملة تشمل منصات تعليمية إلكترونية تفاعلية، ومكتبات رقمية ضخمة، وشبكات تواصل مع الباحثين والخبراء حول العالم. تتيح هذه البنية الرقمية للطلاب والباحثين الوصول إلى أحدث الدراسات والأبحاث، والمشاركة في دورات تدريبية وورش عمل عن بعد، وتبادل الأفكار والابتكارات مع نظرائهم في مختلف أنحاء العالم. بهدف خلق نظام غذائي مستدام وآمن وصحي للأجيال القادمة.
وعلي الرغم من اهتمام جامعة الغذاء بالزراعة الدقيقة باستخدام أجهزة الاستشعار عن بعد، والطائرات بدون طيار (الدرونز)، وتحليل البيانات الضخمة لمراقبة المحاصيل والتربة بدقة، وتحديد الاحتياجات الفعلية من المياه والأسمدة، مما يقلل الهدر ويزيد الإنتاجية، التحسين الوراثي والتكنولوجيا الحيوية، الزراعة العمودية والمائية، استخدام الروبوتات في عمليات الزراعة المختلفة، من الزراعة والحصاد إلى المراقبة والتعبئة، وتحلية مياه البحر والمياه الجوفية المالحة، باستخدام أحدث التقنيات النانوية والأغشية الذكية، وحصاد المياه من مصادر غير تقليدية باستكشاف وتطوير تقنيات مبتكرة لحصاد الرطوبة من الهواء والندى، مع ضمان أعلى معايير السلامة البيئية. فلا يقتصر دور “جامعة الغذاء” على الإنتاج الزراعي المستدام وتوفير المياه فحسب، ولكن أيضا استخدام تقنيات تتبع متقدمة مثل البلوك تشين لضمان سلامة وجودة الأغذية، وتوفير معلومات شفافة للمستهلك حول مصدرها ورحلتها، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الغذائية وتقديم توصيات مخصصة للمستهلكين حول التغذية الصحية والمستدامة.
إن هذه التجربة التي تحمل رؤية متكاملة لتنير دروب المستقبل، وتحويل الصحراء من أرض قاحلة إلى مصدر للخير والبركة، وتوظيف المادة الذكية لخدمة الأمن الغذائي العالمي. إنها رحلة طموحة، لكنها ممكنة بالإرادة والعلم والعمل الجاد، وتحتاج إلي تكاتف الجهات المختصة لدعمها وسرعة الإنتهاء من إنشائها.