«زيارة النصر».. حين جسدت القاهرة وموسكو معادلة التوازن الدولي

«زيارة النصر».. حين جسدت القاهرة وموسكو معادلة التوازن الدولي

حضر الرئيس عبد الفتاح السيسي فى ٩ مايو الجارى احتفالات روسيا بعيد النصر، الحضور المصري رفيع المستوى، جسد حجم التطور في العلاقات المصرية الروسية خاصة في السنوات الأخيرة، وأكد دور مصر المتنامي دوليا.حضور الرئيس السيسي لم يقتصر على الطابع البروتوكولي، بل حمل دلالات سياسية واضحة، تعكس متانة الشراكة بين البلدين، ووعي الجانبين بأهمية التنسيق المشترك في ظل التحولات المتسارعة عالميا.العلاقات بين القاهرة وموسكو شهدت تطورات ملحوظة منذ 2014، فانتقل مستوى التعاون من تقليدي لاستراتيجي شامل، وتم إعلانه رسميا في عام 2018، وشكل هذا الإعلان نقطة تحول في مسار العلاقات الثنائية، وأسس لتعاون طويل الأمد في مختلف المجالات، ويظهر هذا التقارب لزيارات متبادلة رفيعة المستوى، أبرزها زيارة الرئيس السيسي إلى موسكو في أكتوبر 2018، وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القاهرة في ديسمبر 2017، التي تم خلالها توقيع عقود إنشاء محطة الضبعة النووية بتكلفة تقارب 30 مليار دولار، وهى واحدة من أبرز  وأهم مشاريع التعاون بين القاهرة وموسكو.كما تعزز التعاون في قطاع السياحة، إذ عادت الرحلات الروسية إلى مصر بعد انقطاع دام لسنوات، لتسجل مصر نحو 1.5 مليون سائح روسي في عام 2023، وعلى المستوى السياسي، أظهرت مصر وروسيا تقاربًا في وجهات النظر إزاء عدد من القضايا الإقليمية، أبرزها الملف الليبي والأزمة السورية، والقضية الفلسطينية مما يعكس تنامي مستوى التنسيق الاستراتيجي بين الجانبين.الشراكة الاستراتيجية بين مصر وروسيا أحد أهم وأكثر النماذج وضوحًا في إعادة تعريف العلاقات الثنائية على أساس منافع متبادلة ومصالح مترابطة، فالتعاون الاقتصادي بين البلدين ليس مجرد داعما للعلاقات السياسية، بل أصبح في صميم هذه العلاقة، ومؤشرًا رئيسيًا على متانتها.مجالات التعاون المصري – الروسي، متعددة، طاقة، زراعة، صناعة، ما يعكس بوضوح إدراك الجانبين لأهمية بناء شراكات ذات طابع استراتيجي طويل المدى، تضمن ليس فقط تنمية اقتصادية، بل وتحقق نوعًا من التكامل الذي يخدم المصالح الوطنية للطرفين.الرؤية المشتركة بين القاهرة وموسكو تتجسد بوضوح في مشروع محطة الضبعة النووية، الذي يعد نقلة نوعية في تاريخ الطاقة المصرية، فبعيدًا عن كونه مشروعًا لتوليد الكهرباء، يمثل الضبعة منصة لتوطين التكنولوجيا الروسية المتقدمة، وتأهيل كوادر مصرية قادرة على التعامل مع أحد أكثر مجالات التكنولوجيا تعقيدًا وحساسية.وتمثل المنطقة الصناعية الروسية في محور قناة السويس خطوة استراتيجية ضمن جهود موسكو لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة، وتأكيدًا على تحول مصر إلى شريك محوري في خارطة التصنيع الإقليمي، فالمشروع لا يقتصر على جذب استثمارات ضخمة أو توفير فرص عمل فحسب، بل يعكس توجهًا نحو إعادة تشكيل سلاسل التوريد الروسية بعيدًا عن الأسواق التقليدية، من خلال مصر، كما يعكس المشروع رغبة مصر في توطين صناعات ثقيلة ومتقدمة، وتحقيق استفادة مزدوجة من موقعها الجغرافي كممر تجاري عالمي، ما يضعها في موقع تنافسي متقدم في مجال التصنيع والخدمات اللوجستية في الإقليم.وفى ظل التغيرات العالمية المتسارعة، تفرض التحولات الاقتصادية نفسها بوصفها أحد المحركات الأساسية لإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، وتسير العلاقات المصرية الروسية في هذا الاتجاه، فأحد أبرز مؤشرات هذا التوجه هو النمو الملحوظ في حجم التبادل التجاري بين القاهرة وموسكو، والذي بلغ نحو 80 مليار دولار، مدفوعًا بزيادة الصادرات الروسية من الحبوب والمواد الخام، إلى جانب واردات مصرية متنوعة، لكن الأهم من الأرقام هو التوجه المشترك نحو إجراء المعاملات باستخدام العملات المحلية، الجنيه والروبل، وهو ما يعكس إرادة حقيقية لفك الارتباط الجزئي بالدولار وتقليل الاعتماد على الأنظمة المالية الغربية.كما يبرز ملف الأمن الغذائي بوصفه أولوية قصوى، خاصة في ظل التحديات العالمية المرتبطة بسلاسل الإمداد وتغير المناخ، ومن هنا، فإن الحديث عن إنشاء مراكز لتخزين وتوزيع الحبوب الروسية في مصر لا يعد فقط خطوة اقتصادية مهمة، بل هو مؤشر على بناء قاعدة استراتيجية للاستقرار الغذائي في المنطقة.ولم يقتصر التعاون الثنائي على القطاعات التقليدية، لكن يمتد إلى مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المرتبطة بإدارة الموارد المائية وتحلية المياه، ما يعكس إدراكًا مشتركًا لأهمية التحول نحو اقتصاد مستدام قائم على المعرفة، ويشهد قطاع السياحة، انتعاشًا ملحوظًا مع عودة السياح الروس إلى مصر، ومن شأن تعزيز خطوط الطيران منخفضة التكلفة، إلى جانب الاستثمار الروسي المحتمل في البنية التحتية السياحية، أن يفتح آفاقًا جديدة أمام هذا القطاع الحيوى، فالعلاقات بين البلدين ليست مجرد تعاون عابر بل ملامح شراكة استراتيجية مبنية على أسس عملية وتوجهات سياسية واقتصادية تتسق مع التحديات الراهنة.وشهدت السياسية الخارجية المصرية خلال السنوات الأخيرة تحولات جذرية وهائلة، تشير لنهج عقلاني متزن، جعلها قادرة على  استعادة مكانتها كفاعل إقليمي له حضور مؤثر على الساحة الدولية، ومشاركة مصر في المحافل الدولية الكبرى إلى جانب قادة دولية مؤثرة يؤكد دورها المتنامي، والذي لم يأت صدفة، بل نتيجة لاستراتيجية مدروسة تجعل من الاعتبارات الاقتصادية محرك للتقارب وبناء الشراكات المستندة إلى المصالح المتبادلة.وفي ظل عالم تتسارع فيه التغيرات الجيوسياسية، تبرز الشراكة المصرية الروسية كنموذج لتعاون قائم على التكافؤ والتفاهم المشترك، يستهدف تشكيل نظام دولي أكثر توازنًا وتعددية، وتتجاوز هذه العلاقة حدود التنسيق السياسي المؤقت، لتشكل إطارًا استراتيجيًا يقوم على توافق المصالح وتقارب الرؤى، مما يهيئ البلدين للعب دور محوري في دعم الاستقرار الاقتصادي العالمي وتعزيز استدامته، ومع تنامي التنسيق بين الجانبين، يتجه هذا التحالف بخطى ثابتة نحو مستقبل يوازن بين المصالح الوطنية.