أوراق الورد الأخيرة أقدمها للأستاذ أحمد الصغير حول رسالتي للإمام الأكبر

أوراق الورد الأخيرة أقدمها للأستاذ أحمد الصغير حول رسالتي للإمام الأكبر

كنت أشعر  أن الكاتب والمفكر الأستاذ أحمد الصغير  حين تغيب  طلته على صفحات جريدة الدستور وقتا طويلا، فلابد أنه يٌعد عٌدتَه لمبارزة جديدة على الورق، ولا أخفي يقيني بأن أشرف النِزال هو نِزال الفكر، وأرفع مٌبارزة هي مٌبارزة القلم، وأدرك بوعي صادق أنني وكاتبنا الرائع لم نٌرِق دماء الأفكار التي تحاورنا حولها في مقالات السِجال الدائر بيننا من خلال منبر  الجريدة الأهم التي تمثل صوت الوعي في مصر، بل أتصور  أننا أخذنا قطارا واحدا وجلسنا سويا على مقعدين متجاورين وتناقشنا واختلفنا في رحلة السفر حول فكرة واحدة لكننا في النهاية نزلنا في محطة وصول واحدة، ولاشك أنني اكتسبت في هذه الرحلة رفيقا من أصدقاء الفكر  جَر قلمي مرارا حتى نادت  الكلمات رفاقها لتصطف على الأوراق التي عرفت في نهاية المطاف أنها أوراق الورد التي تبعث عبير الحرية والفكر  الأرقى الذي يٌجلي غوامض الأمور، والذي لم يكتف بمعرفة أصول الأشياء وفروعها أو الوقائع ومسبباتها أو النصوص ومعانيها بل يتعدى ذلك لمعرفة ما يٌحيط بهذه الأشياء وما حولها وما يتعلق بها. ولأن الأستاذ أحمد الصغير وضع نقطة في نهاية السطر ومزج عنوان مقالته السابقة (حول رسالة د. باسم عادل لفضيلة الإمام الأكبر.. انتهى عصر الفتاوى الدينية فى الشأن السياسي!) بعبارة «الحلقة الثالثة والأخيرة»، فلن أكتب بعد النقطة، ولكنني سأعود إلى ما قبلها داخل السطر لأقدم إليه ورقة الورد الأخيرة، وهي الورقة التي لن تموت أبدا بل ستترك من ورائها بٌستانا جميلا يكره الجمود والتحجر ويرى أن التقاليد لا تعني أن الأموات أحياء، بل تعني أن الأحياء أموات، لذلك سأكون مٌوجِزا في مقالي هذا لأضع أمام القارئ وجهتي الأخيرة.(1)ليعلم الأستاذ أحمد الصغير أن الاستشهاد بأقوال بعض الفلاسفة أو كبار المفكرين ولو كانوا من غير المصريين لا يمكن وصفه بالإجحاف للحضارة المصرية ولا هو استنكار لتراثنا المصري الزاخر بالحكمة، فالاستشهاد لم يكن بحضارة أوطان هؤلاء الفلاسفة أو بجنسياتهم وانتماءاتهم حتى نعود للخلف مرة أخرى في إيثار التأويل الشخصي للناقد أكثر من فهم قول الكاتب نفسه وهو اتجاه يٌصر عليه الناقد الكريم، بل كان الاستشهاد بأقوال هؤلاء الكبار التي تلخص موقف أو رؤية أراها في السياق الذي وجدته معبرا عن فكرتي وليس معبرا عن استقبال كاتبنا العزيز وتأويله، وهذا الطرح (لأذكر القارئ الكريم الذي اصطبر علينا كثيرا) كان يفسر العلاقة بين اليقين والمعرفة ومحاولة أن أبرز منهجي في الفكر القائم على التدبر والاستمهال لألزم معرفتي باليقين، حتى لا يكون مجرد فكر في الهواء الطلق أروج له من قبيل النزعة الفردية، فلا يستقيم مع من يفكر أن ينزع بأفكاره للهوى، ذلك أن الناس تتأثر بماُ يٌعليه من بناء الرأي والفكرة، فإذا استقام نفع الناس، وإذا استمال سقط فوقهم، وهذا نص ما كتبته ولم يكن له علاقة بصراع الحضارات وتفضيل واحدة عن الأخرى كما وجهنا رد الأستاذ أحمد الصغير، وهذه ملاحظة لا يمكن تجاهلها. (2)كنت أتمنى أن يَطلع الأستاذ أحمد الصغير على مقالي المنشور بجريدة الدستور يوم الخميس 8 مايو 2025 تحت عنوان (هل رفض الأزهر لقانون الفتوى إلقاء بالشوك فى طريقها؟) ولو فعل ذلك لجنب قلمه العزيز عناء جهد كبير ووفر وقت القارئ فيما أورده  في تعليقه على المادة السابعة من الدستور والخاصة بالأزهر الشريف، وكنت أتوقع أيضا أن يعود لمقالاتي السابقة المنشورة بنفس الجريدة تحت عنوان (التعريب وخطورة التجريب في جامعة الأزهر)، وعنوان(الشيخ الرئيس ابن سينا يرد على رئيس جامعة الأزهر)،وعنوان(قانون الأزهر يمنع جامعته من السقوط في الهاوية) وعنوان(بيت الزكاة وحكاية الآمال النبيلة حين ينقصها الاكتمال) وجميعها نٌشرت قبل رده الأخير وأغلبها من المنشور قبل بداية هذا السجال أصلا ليقف على حقيقة نقدي الفكري الهادف لتطوير الأزهر الشريف وليتحقق من وجهة هذا الفكر ودوافعه التي تحافظ على كيان الأزهر الشريف وفي نفس الوقت تطالب بتطويره ومواكبته لدعوة تجديد الخطاب الديني، وليسمح لي الأستاذ أحمد الصغير أن أرفض طرحه بأنه لم يٌحاكم أفكار ي ولا إنتاجي الأدبي والفكري، لكنه (على حد قوله) كان يتناول نصا منشورا حمل اسمي، فلا أتصور أنه يٌمكن نقد مقال من خلال احتكام الناقد لتأويله فقط خاصة بعد إعادة وتكرار ما تم نفيه وتصحيحه أو توضيحه سابقا عندما استشعرت من أول مرة بأن الكاتب العزيز  يٌصر على استنساخ وتكرار نفس التأويل، وهو ما جعلني أشعر بأن النقد مجرد نظريات جاهزة، يٌقتحم من خلالها النص ليطبق الناقد فقط نظرياته عليه دون الشعور  بنبض ولحم ودم وأعصاب النص الذي ينتقده، وهذا خطأ كبير، لأن فهم النص يجب أن يسبق النقد. ومن المفترض أن يٌولِّد كل نص زاوية الرؤية التي يجري التعامل معها نقديًا. لم تكن هناك دعوة مني لأن تٌلغي المادة السابعة من الدستور تداخل مؤسسات وهيئات أخرى مجتمعية وثقافية وسياسية حين يكون الحديث عن قضايا مجتمعية وسياسية تخرج فى طبيعتها عما حدده الدستور.. هل كان كاتبتنا المتميز يرد على مقال غيري من خلال مقال الحلقة الثالثة والأخيرة الذي وجهه لي؟ (3)أعتبر أن إطالة الأستاذ أحمد الصغير  في الرد والعرض والاسترسال والتكرار  والتي أجهدتني كثيرا وأخذت مني وقتا ثمينا في محاولة الوقوف على مضمونها بدقة قد تسببت في الإيحاء بأن هناك خلاف على حرية العلم والعلماء وإبداعهم في البحث والتجديد أو أن هناك ترويج مني لفكرة الرأي الديني الحصري، وهذا على ما أعتقد كان نتاج زحام الكلمات والعبارات والانتقال بين محطات مختلفة بعضها في السياق وبعضها خارجه والتي فرض علينا الناقد العزيز  أن نتوقف بها أكثر من مرة حتى شعرت أن القطار الذي نستقله من النوع القشاش الذي يتوقف أكثر مما يتحرك، لكن واقع الاختلاف هو طريقة استخدام هذه الحرية العلمية ومسئوليتها وقد أوضحت أكثر من مرة  في مقالاتي السابقة سواء بالإشارة أو البيان الكامل أن الرؤى العلمية والتجديدية لا يجب أن تٌطرح في مراحل مهدها ومناقشتها على منابر الإعلام الساعي للسبق وما وراءه من مكاسب لصناعة الإعلام، وأن لهذا الطرح العلمي قواعد وأصول ولا  يجب أن تٌعلَن القاعدة العلمية التي سيستخدمها العامة في أمور حياتهم إلا حين تَثبٌت وينتهي الجدال حولها، وإلا قَدَّرنا للعامة أن يشاركوا في هذا الاجتهاد والبحث وهم غير مؤهلين لذلك، وهو منطق أقتنع به ويقره مجتمع العلماء المعتبرين وهذا لا ينفي احترامي كثيرا لاختلاف الأستاذ أحمد الصغير معه، لكنه اختلاف بَيْني لا يستحق هذا الاسترسال طالما أن هناك اتفاق أصيل على مبدأ حرية العلم والتجديد، أما مسألة الرأي الديني الحصري فقد تم الرد عليه كثيرا ولا أريد أن أرهق القارئ الذي أدعوه أيضا للعودة مرة أخرى لمقالات هذا السجال وكافة مقالاتي الأخرى التي أشرت إليها عاليا حتى يتبين رأيي الواضح الذي لا يٌخفى أيضا على من يمتلك ناصية القراءة والكتابة.(4)مسألة الدفع الفاسد في القياس في إشكالية (عامل البار) أرفضها أيضا، فهناك فارق كبير بين التقييم العلمي لهذا القياس وبين احترام المعنى الذي نريد أن نصل به في النهاية للقارئ، أو ما نريد للقارئ أن يعتبره رأيا صحيحا يسير  عليه ويتخذه نموذجا في التصرف، فأنا هنا أتكلم مع القارئ أو أكتب من أجل القارئ وليس من أجل الناقد (مع احترامي وتقديري) وأحترز وضع القارئ لعينه في بؤبؤ عيني حين يقرأ كلماتي فلا يٌقدر  أنني أقمت العلاقة الصحيحة بين اليقين والمعرفة ومن النظر في العين يظهر الصدق أو يٌفتَضح الكذب، أما مسألة المصرح به من عدمه فهو قصد أخشى أن يٌراد به خنق الرأي  في خندق القانون، فلا يوجد قانون مثلا  يجبر أن نقوم من مقاعدنا في المواصلات العامة لكبار السن، لكننا نفعلها من تلقاء قانون قيمنا الأخلاقية، وهناك أيضا قوانين ظلمت المرأة المطلقة وحقوقها وحقوق أبنائها في حضانتها قبل إدخال تعديلات تبتر هذا الظلم، ورغم أن لها القدسية كاملة لكونها قانون إلا أن المجتمع كان يرى بها عِوارا لا يحمي المرأة. وهذا القول الذي يراه الأستاذ أحمد الصغير أنه يخلق حالة شيزوفرنيا عند بعض المصريين بين مواد القوانين المصرية وبين ما يعتقده البعض أنه حرام أو حلال ديني. مدعيا رؤيتي التي فسرها حول مسألة المسلمات الدينية، لا أراه إلا قطع لعنق حقيقة ما ورد بمقالي. (5)القول في مقال الأستاذ أحمد الصغير بأن حوارنا قد خرج عن موضوعه الأساسي لقضايا هامة متشابكة وبعضها شائك، لكن يمكننا الاستمرار فيها لمدى زمني بعيد وأنه يرى أن مصر بها من القضايا المتلاحقة ما يوجب علينا الالتفات إليها، هو قول صحيح لكن عدم توجيه دفة النقد في مسار واضح مع محاولات استعادة ما تم الرد عليه وتوضيحه هو الذي شعر معه كاتبنا الكبير بأن الحوار خرج عن موضوعه الأساسي… ربما ذلك من وجهة نظره، أما من وجهة نظري فقد كان كلامي في صٌلب الموضوع الأساسي.(6)أخذت كثيرا على ناقدنا الكبير  استخراج معنى من أفكاري يخص معاني من أفكاره، كأن أذكر أن من مبادئ ديننا الإسلامي أن من حق أي انسان أو جماعة تعيش تحت مظلته ولا تدين به أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وأعرافها، وتمارس شعائرها الدينية بكل حرية فيعلق قائلا: (والآن يضعني فى مواجهة غريبة وكأنى أنكر أن الإسلام قد منح حرية العبادة لغير المسلمين من أهل الكتاب)، أو في ما جاء في رسالتي للإمام الأكبر فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب بأنه لا بد من النظر فى إجراءات لائحية أو تشريعية تمنع المناقشات وطرح الاجتهادات العلمية  على الناس والعامة، وفى نفس الوقت نفسه ناشدت الإمام الأكبر أن يؤسس لآلية تحت مظلة الأزهر وداخل أروقته تسمح بفتح الحوار مع أصحاب الرؤى التجديدية من المفكرين والعلماء والمثقفين المشهود لهم بالاعتدال والأخذ بأسباب العلم وقواعد الفكر السليم، والاستماع إليهم في القاعات العلمية والنقاشية المغلقة داخل جامعة الأزهر بعيداعن إثارة الرأي العام، ثم يٌنشر فقط فى وسائل الإعلام نتيجة تلك الحوارات، فإما أن يصحح لهم الأزهر ما يراه من رؤى مغلوطة، وإما أن يقتنع الأزهر بمستجداتهم فى الفكر إذا استندت إلى حقائق علمية وفكرية صحيحة، ووقتها على الأزهر الشريف أن يمارس شجاعته التاريخية المعتادة فى إعلان الحقيقة وتبنى تلك الأفكار التى ثبت صحتها، فيستبعد الكاتب الأستاذ أحمد الصغير  كل هذا التفسير والإيضاح ليعلق قائلا: ( حضرتك تساند فى رسالتك الأولى موقف المؤسسة الدينية وتستدعيها للحجر على بعض علمائها باقتناعك أنهم يربكون العامة بآراءٍ شاذة ضد الصحيح من التراث والثابت من الدين).. أليس هناك فارق يا كاتبنا الوقور بين أخلاقيات البحث والنشر العلمي التي تؤسس المبادئ والممارسات التي توجه سلوك الباحثين يعد الالتزام بالمبادئ التوجيهية الأخلاقية لضمان نزاهة ومصداقية البحث العلمي والحفاظ على ثقة الجمهور في المجتمع العلمي وأيضا أخلاقيات البحث العلمي وأبرزها النزاهة والصدق والأمانة، والعمل المنظم الدقيق البعيد عن العشوائية والتسرع، واتباع الموضوعية والحياد، واحترام الملكيات الفكرية ومجهودات الآخرين، وبين الفوضى المعرفية والبحثية التي تحتاج إلى كثير من تفهم الحقوق والواجبات، وإلجام النفس بلجام الضوابط المعرفية والأخلاقية.هذا هو ملخص ما عرضته ودافعت عنه ولم يكن أبدا ما أخذته على كاتبنا وناقدنا المحترم الأستاذ أحمد الصغير.أتفق في النهاية مع قول الأستاذ أحمد الصغير في أننا قد وصلنا لنقاط توافق كثيرة، لكنه لم يَرِد أن يترك نقطة آخر السطر قبل أن يٌضيف عبارته (وأن رسالتي إليه وإلى كل من يرى رؤيته قد وصلتْ، وقد بادر الرجل إلى توضيح ذلك ووصفه بأنه تأويل خاطئ منى لمعاني كلماته، وهذا يكفيني لتحقيق ما هدفتُ إليه) وهي العبارة التي أراها تبدو مفخخة في نهاية السجال،فالتأويل الخاطئ من ناقدنا لم يكن حجة للدفاع أو لتصحيح لأفكاري، بل حقيقة فسرتها ودللت عليها وأثبتها بكل الصدق والأمانة، وحين تٌستدعى مرة أخرى في النهاية أراها نقد للناقد الذي أحترمه كثيرا وأقدر  منطقه كثيرا، وأنا أيضا أحيل كل من يتابع هذا الحوار إلى نص كل مقالاتي في هذا السجال لتقدير  مضمون ما جاء بها.يبدو أنه من الحظ الموفور أنني لحقت الموقف قبل نقطة آخر السطر ليكتمل مشهد رؤيتي الحقيقية في ضمير القراء.ومع ذلك أقدم للكاتب الكبير أحمد الصغير ورقة الورد الأخيرة من بستان اعتزازي به.