أزمة تجنيد الحريديم.. صداع في رأس نتنياهو

تُعتبر أزمة تجنيد اليهود الحريديم في إسرائيل، واحدة من أبرز التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجه الحكومة الإسرائيلية، وبشكل خاص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد صدرت مؤخرًا تعليمات من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، لتوسيع نطاق التجنيد ليشمل نحو 50 ألفًا من الحريديم، وذلك بالإضافة إلى الأمر السابق الذي يتضمن تجنيد 20 ألفًا منهم.
وتُعد هذه الخطوة بمثابة تصعيد في ملفٍ طالما كان مصدر توتر شديد بين الجيش والحكومة من جهة، وبين التيار الحريدي ومؤسساته الدينية من جهة أخرى.كان لتوسيع نطاق التجنيد من قبل رئيس أركان الجيش إيال زامير تداعيات سياسية فورية، فقد أثار قرار زيادة عدد المجندين من الحريديم غضبًا واسعًا في الأوساط السياسية الدينية، وعلى رأسها حزب “ديغل هتوراه” اليميني الديني، الذي أعلن في أعقاب ذلك عن نيته الانسحاب من حكومة نتنياهو.
بحسب ما نقلته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، فإن قادة بارزين في التيار الحريدي باتوا يرون أن استمرارهم في الائتلاف الحاكم لم يعد مجديًا في ظل استمرار الأزمة وعدم التوصل إلى حلول توافقية، خاصة مع تصاعد أوامر التجنيد بحق طلاب المدارس الدينية.السياق التاريخي والقانوني
يرجع إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية إلى بدايات دولة إسرائيل، وبالتحديد عام 1948، حين أصدر ديفيد بن غوريون، أول رئيس حكومة للكيان الإسرائيلي، قرارًا باعتبار قرابة 400 طالب من المعاهد الدينية (اللييشيفوت) معفيين من التجنيد العسكري بهدف تمكينهم من مواصلة دراستهم الدينية، وقد كان هذا القرار مرتبطًا بعدة أهداف أساسية، منها الحد من التوترات الاجتماعية التي كانت قد تنشب في دولة صغيرة في بداياتها، إضافة إلى الحفاظ على استقرار المجتمع الحريدي ككيان يمكن الاعتماد عليه في ركائز الدولة المختلفة.
مع تطور الزمن وزيادة أعداد اليهود الحريديم الذين يرفضون الخدمة العسكرية، بدأت الحكومة الإسرائيلية تواجه ضغوط كبيرة من التيارات العلمانية والليبرالية لتعديل تلك القواعد، إذ يشكل الحريديم اليوم حوالي 13% من سكان إسرائيل، ويتوقع أن تصل نسبتهم إلى نحو 19% بحلول عام 2035 نتيجة ارتفاع معدلات الولادة بين هذه الفئة، هذا الأمر زاد المخاوف من أن يصبح عدد كبير من المواطنين معفيين من الخدمة العسكرية، وهو ما يُنظر إليه كعبء على باقي فئات المجتمع.في السنوات الأخيرة، شهدت هذه القضية تحولات قانونية بارزة، حيث أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أحكامًا ترى بأن الإعفاءات الجماعية على أساس ديني تمثل تمييزًا غير قانوني، وجعلت من الضروري إعادة النظر في التشريعات المتعلقة بالخدمة العسكرية للحريديم، بناءً على ذلك، حاولت الحكومة عمل صياغة قانونية جديدة تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن بين احترام التقاليد الدينية ومتطلبات الخدمة الوطنية، إلا أن هذه المحاولات باءت في معظم الأحيان بالفشل، مما أوقع الحكومة في مأزق يصعب تجاوزه.هذا الوضع لطالما أثار جدلًا واسعًا في المجتمع الإسرائيلي، حيث ترى الأغلبية العلمانية والليبرالية في إسرائيل، أن الخدمة العسكرية تشكل عنصرًا جوهريًا في صياغة الهوية الوطنية، ووسيلة لتحقيق التكافؤ بين فئات المجتمع المختلفة، فهي تعزز الشعور بالانتماء الموحد وتعزز الولاء للدولة، من هنا يبرز التوتر بين المطالب المختلفة، إذ يُنظر إلى استمرار إعفاء الحريديم على أنه استثناء يحطّ من قيمة المساواة ويؤثر على السلامة الوطنية، خصوصًا مع وجود مطالب مستمرة لتوسيع التجنيد ليشمل فئات أكبر من الحريديم، في المقابل، يدافع الحريديم عن حقهم في متابعة دراستهم الدينية، مؤكدين أن ذلك يعكس هويتهم الخاصة ويخدم المجتمع بطرق أخرى.تزداد تعقيدات الأزمة في ظل حكومة يقودها بنيامين نتنياهو، التي تحظى بدعم قوي من أحزاب يمينية ودينية، من بينها الحريديم، ويعتبر مطلب هذه الفئات المتعلقة بالتجنيد “خطًا أحمر” لا يمكن تجاوزه دون المساس بتوازنات الائتلاف الحكومي، ومع ذلك، لا تخلو الحكومة من ضغوط داخل المؤسسة العسكرية والشارع العلماني الذين يطالبون بالمساواة في الخدمة وإلغاء الاستثناءات التي تمنحها القوانين السابق، وينذر الجمود السياسي والقانوني في هذا الشأن بإمكانية لنزاع دائم قد يقود إلى إضعاف الحكومة أو تعطيل السلطات التشريعية.تكمن أهمية أزمة تجنيد الحريديم في أنها لم تكن مجرد نزاع قانوني أو سياسي، بل انعكاس لصراع أوسع حول الهوية الإسرائيلية ومفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعية، إذ أدت هذه الأزمة إلى إثارة احتجاجات واسعة، وأضعفت المستويات المختلفة من الحكم، وهددت استقرار الحكومات المتعاقبة، وكانت واحدة من الأسباب التي أفضت إلى تآكل شعبية نتنياهو السياسي.
لقد واجه نتنياهو، خلال فترة حكمه الطويلة، انتقادات حادة بسبب عدم تمكنه من تسوية هذه الأزمة بشكل نهائي، حيث اتُهم بالتردد والتفريط في تحقيق مبدأ المساواة، ما أدى إلى استقطاب سياسي واسع، كما ساهمت هذه الأزمة في تحالفات سياسية معقدة أدت إلى تراجع الدعم الشعبي لحكومته، وفتح الباب أمام خصومه لاستغلال قضية التجنيد كرافعة للضغط عليه سياسيًا.السيناريوهات المحتملة
من المتوقع أن يسعى نتنياهو الأيام المقبلة إلى تمرير قانون يرضي المحكمة العليا بشكل شكلي، إلا أنه فعليًا يتضمن بنودًا تعفي الحريديم من التجنيد، استجابة لضغوط الأحزاب الدينية بهدف الحفاظ على استقرار الائتلاف السياسي، ورغم محاولة هذه الصيغة لتجاوز الأزمة، إلا أنها ستواجه رفضًا قاطعًا من المعارضة العسكرية والمدنية التي تعتبر القانون محاولة للتحايُل على المبادئ الوطنية والقانونية، مما قد يؤدي إلى تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية.
إذا لم يتمكن نتنياهو من إدارة التناقضات وتوحيد رؤى الائتلاف، فقد يلجأ إلى حل الحكومة وإجراء انتخابات جديدة على أمل تكوين أغلبية أكثر تماسكًا ومرونة تجاه القضية، ومن الممكن أن يؤدي هذا السيناريو إلى مزيد من الاستقطاب السياسي والاجتماعي، وتعطيل المؤسسات، وربما تفكك المجتمع بين مكوناته المختلفة.التداعيات الاجتماعية للأزمة
لا تقتصر أهمية أزمة تجنيد الحريديم على بعدها السياسي فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيرات عميقة على النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، إذ قد يؤدي استمرار التعنت في المواقف إلى تعزيز الشعور بالانقسام الاجتماعي، وتحفيز النزاعات بين الفئات الدينية والعلمانية على حد سواء.