حين فقد الشيخ " رفعت " نور عينيه !

قبل 75 عاما رحل صاحب الصوت الذهبي، قارىء القرآن الكريم الشيخ ” محمد رفعت ” ولكنه مازال حيا يثري حياتنا اليومية بصوته الشجي الذي اعتدنا على سماعة صباح كل يوم.
قد يملّ بعض المستمعين من رداءة تسجيلات الشيخ ” رفعت ” القديمة التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي حيث بدايات عصر التسجيل على اسطوانات، لكن مَن يُمعن السمع، يدرك أنه أمام صوت استثنائي يحمل من الإحساس والقوة والروح ما يتجاوز حدود التقنية.
جودة التسجيلات المتاحة للشيخ ” رفعت ” لا تُنصف عظمة أدائه، لكن صوته محفورًا في ذاكرة المصريين والعرب والمسلمين جميعا، حيث ترتبطت به لحظات الصباح الأولى كل يوم في الإذاعات المصرية، وتتسابق القلوب لسماعه قبيل الإفطار في رمضان، نلجأ الى صوته عندما نشعر بلحظات الشجن والخشوع والتقرب الى الله ، كما نرتبط بمشاعر الحب والحنين والطرب مع اصوات أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز ونجاة.
ولد الشيخ ” محمد رفعت ” في 9 مايو 1882 بحي المغربلين في القاهرة، وسط بيئة شعبية بسيطة ولكنه ينتمى للطبقة المتوسطة ميسورة الحال فكان والده ضابطًا في الشرطة ومأمورا لقسم الجمالية، لكن طفولة ” رفعت ” لم تكن سهلة، بعدما فقد بصره نتيجة مضاعفات مرض أصابه في عينه في وقت لم يسمح تقدم الطب بإنقاذه، فتغيّر مسار حياته مبكرًا، واتجه إلى حفظ القرآن الكريم وإجادة تلاوته.
وفي عام 1934، افتتح بث الإذاعة المصرية لأول مرة بصوته، بتلاوة آيات من سورة “الفتح”، فكان أول صوت قرآني يُسمع عبر أثير الإذاعة، وأصبح لاحقًا الصوت الذي يربط ملايين الناس بالقرآن والسكينة والطمأنينة.
تحكي ابنته أن واقعة فقد بصره بالكامل حدثت عام 1936، عندما كان يتلو سورة الكهف في مسجد سيدي جابر بالإسكندرية، حيث اجتمع المصلون حوله إعجابًا، وفي غمرة المشاعر، لامس أحدهم عينه المبصرة عن غير قصد، ففقد بصره نهائيًّا.
ورغم شهرته الواسعة، رفض الشيخ ” رفعت” أن يُستخدم صوته خارج حدود الشرع كما فهمه هو، فقد رفض تلاوة القرآن لإذاعة BBC العربية البريطانية التابعة لدولة الاحتلال يومها ظنًا منه أن ذلك لا يجوز، حتى أفتى له الإمام المراغي شيخ الازهر بجواز القراءة للمسلمين وغير المسلمين، فوافق وقرأ سورة مريم، فكان لصوته وقعٌ خاصٌّ في الأوساط الغربية.
أصيب الشيخ ” رفعت ” في أواخر حياته بسرطان الحنجرة، حتى طال الورم المرض أحباله الصوتية، فكان ابتلاءً في أغلى ما يملك، حاول مواجهة المرض بالاستمرار في التلاوة، لكنه انهار ذات مرة أثناء قراءة سورة الكهف، ولم يستطع أن يُكمل، ليعود إلى منزله باكيًا.
عرض عليه المساعدة المالية كثيرا من اثرياء تلك الفترة ومن ملوك وامراء وقادة عرب لعلاجه، ولكنه رفض قبول أي مساعدة مالية بكبرياء المصري الاصيل الحافظ لكتاب الله، متمسكًا بكرامته، وكان يردد دائمًا: “قارئ القرآن لا يُهان”، حتى أنه باع بعض من ممتلكاته ليدبر نفقاته، وظل على هذا الحال حتى وفاته.
ومن اجمل ما قيل عنه ما قاله الشيخ محمد متولي الشعراوي: “إن أردنا أحكام التلاوة فالحصري، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبد الباسط، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا، فهو محمد رفعت”
في صباح يوم 9 مايو 1950، غاب صوته إلى الأبد. وأعلنت الإذاعة المصرية رحيله بكلمات خالدة: أيها المسلمون، فقدنا اليوم علمًا من أعلام الإسلام”، فكانت تلك نهاية مسيرة قارئ اختزل الجمال، والكرامة، والخشوع في صوته
وهكذا بقي “قيثارة السماء” خالدًا، بصوته الذي لا يزال يتردد صداه في أثير الإذاعات وقلوب المستمعين حتى اليوم.محمد رفعت