الدم المسفوح.. والشفاعة والفداء

الدم المسفوح.. والشفاعة والفداء

موضوع الذبح والذبيح حاضر بقوة فى كل الأديان، فى الإسلام واليهودية تجد جدلًا كبيرًا بين أهل الديانتين حول الذبيح، ومن يكون؟ فالمسلمون يذهبون إلى أنه إسماعيل، واليهود يقولون إنه إسحق، فى تنازع واضح على القيمة ومد جذور الانتماء الدينى إلى النبى الذبيح، وفى المسيحية تجد فكرة «الذبيح» حاضرة، حتى فى الأديان الوثنية كان الذبح حاضرًا، يشهد على ذلك أن أهل الشرك من عبدة الأصنام فى مكة كانوا يقربون الذبائح «من الحيوانات» إلى آلهتهم، وكانوا يسمون الذبيحة «العتيرة». ولا يخفى عليك أن كتّاب السيرة النبوية الشريفة حرصوا كل الحرص على استحضار فكرة الذبح عند الحديث عن جذور نسب النبى، صلى الله عليه وسلم، فهو محمد بن عبدالله، وقد تعرض أبوه لابتلاء شبيه بابتلاء نبى الله إسماعيل- الذين يصر أغلب كتّاب السيرة على أنه الذبيح الذى تحدث عنه القرآن- فكاد أبوه عبدالمطلب أن يذبحه قبل ميلاد النبى.ويبدو أن سيطرة فكرة «الذبح» على عقول المشركين من عرب مكة تمددت بصورة أو بأخرى إلى عقول كتّاب السيرة. فالعرب كانوا يقدمون الذبائح قربانًا إلى أوثانهم، ومن العجيب أن حفلات الذبح تلك حضرت ذات مرة كجزء من الحديث عن دلائل نبوة محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وذلك فى النص الشهير الذى نقله «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» عن مازن بن الغضوبة، والذى حكى فيه أنه كان يسدن صنمًا بقرية، يقال لها «سمايا» من عمان، وكانت تعظمه بنو الصامت وبنو حطامة ومهرة، وهم أخوال مازن، قال مازن: فعترنا يومًا عند الصنم عتيرة، وهى الذبيحة، فسمعت صوتًا من الصنم يقول: «يا مازن اسمع تسر.. ظهر خير وبطن شر.. بعث نبى من مضر.. بدين الله الأكبر.. فدع نحيتا من حجر.. تسلم من حر سقر»، قال: ففزعت لذلك فزعًا شديدًا.. ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتًا من الصنم يقول: أقبل إلى أقبل.. تسمع ما لا تجهل.. هذا نبى مرسل.. جاء بحق منزل.. فآمن به كى تعدل.. عن حر نار تشعل.. وقودها الجندل. قال مازن: فقلت إن هذا لعجب وإن هذا لخير يراد بى.فكرة التقرب إلى الله بالذبح كانت حاضرة فى العقيدة الوثنية لأهل مكة، وقد وظفها بعض كتّاب السيرة فى الاستدلال على نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، عن طريق هذه الحكاية التى لا يتقبلها العقل، والتى نطق فيها صنم وبشر بالنبى الآتى، ولم يلتفت من ألّفها إلى أن القرآن الكريم وصف كيف سخر نبى الله إبراهيم من الأصنام التى لا تنطق ولا تسمع ومع ذلك عبدها قومه: «ما لكم لا تنطقون». على مستوى آخر حرص هؤلاء الكتّاب على إبراز الواقعة التى تعرض فيها عبدالله بن عبدالمطلب، والد النبى، لابتلاء الذبح، حين نذر أبوه عبدالمطلب إن أنجب عشرة ذكور أن يذبح واحدًا منهم، وحين اكتمل العدد اقترع على من تختاره الأقدار من أولاده ليذبحه ويفى بالنذر، وأصابت القرعة ولده عبدالله ثلاثة مرات، فهم بذبحه، لكن رجالًا من قريش منعوه من ذلك، وكان ما تعلم من افتدائه بـ١٠٠ من الإبل. وقد حاول كتّاب السيرة إحداث نوع من التوازى بين قصة الذبيح التى كان بطلها عبدالله بن عبدالمطلب، والقصة الأقدم التى كان بطلها إسماعيل بن إبراهيم، وتضمنت القصة الأخيرة إشارة غريبة إلى أن نبى الله إبراهيم كان قد نذر إن رزقه الله بغلام أن يذبحه. انظر إلى تلك الحكاية التى يقصها «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ»، ويقول فيها: «أمر الله إبراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنه دعا الله أن يهب له ولدًا ذكرًا صالحًا، فقال: (رب هب لى من الصالحين)، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم، قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعى قيل له: أوفِ نذرك الذى نذرت».ولا تجد فى القرآن الكريم أى إشارة تقول بأن إبراهيم نذر أن يكون ابنه الذى ينجبه «لله ذبيحًا»، وتبدو الإشارة التى تضمنتها كتب السيرة محاولة واضحة من جانب المؤرخين لمد جسر صلة بين السياق الذى ارتبط بالذبيح الأول «إسماعيل» والسياق الذى أحاط بقصة الذبيح الثانى «عبدالله بن عبدالمطلب» لرسم صورة «الذبيحين» اللذين جاء النبى، صلى الله عليه وسلم، من نسلهما. وأعيد التذكير بأن الثقافة الدينية السائدة التى تحتفى بـ«فكرة الذبح» كقربان إلى الله تعالى هى التى كانت تسوق كتّاب السيرة نحو هذا الطرح، وأيضًا مسألة الحيرة ما بين فكرة «الكبش العادى» الذى يقدم قربانًا إلى الله: «وفديناه بذبح عظيم»، ودعاء وتضرعًا له بأن يغفر للإنسان خطاياه، وأن يطهره الدم المسفوح من الذنوب، وفكرة «حمل الله» الذى يسفح فيه الدم البشرى كقربان إلى الله تعالى، ليحمل عن الناس خطاياهم، من منطلق أن دم الحيوان المسفوح كقربان إلى الله دم برىء، خلافًا لدم الإنسان الذى تجرى فيه الخطيئة، وفكرة الإنقاذ الإلهى للدم البشرى، قبل أن يتم سفحه، من الأفكار الأساسية التى يؤكد عليها الإسلام، مثلما أنقذ الله إسماعيل من الذبح وافتداه بذبح عظيم، ليأتى محمد، صلى الله عليه وسلم، «الرحمة المهداة للبشر» من نسله، وكما أنقذ عبدالله بن عبدالمطلب من الذبح أيضًا ليتزوج آمنة بنت وهب وينجب منها الرسول «شفيع الأنام».