هيروشيما: عندما تركت الحرارة آثار الراحلين على الجدران

هيروشيما: عندما تركت الحرارة آثار الراحلين على الجدران

في مثل هذه الأيام القائظة التي تعيشها مصر، حين تتحول أشعة الشمس إلى وهجٍ يلسع الوجوه كأنها نار مشتعلة، يتبادر إلى أذهاننا سؤال عميق: ما الذي تفعله الحرارة بالأشياء؟ هل بمقدورها أن تمحو الملامح؟ تذيب التفاصيل حتى تختفي؟ أم تترك بصمة لا تُنسى، أثرًا يتجاوز الزمن والحياة نفسها؟.وفيما نحن نعيش في هذه الحرارة المرتفعة، لا يسعنا إلا أن نُرجع البصر قليلًا إلى الوراء، إلى تاريخ مختلف، لكن له حرارة من نوع آخر… حرارة لم تكن مناخًا بل قرارًا عسكريًا قاتلًا، حرارة لم تحرق فقط الهواء بل أحرقت الوجود ذاته.في السادس من أغسطس عام 1945، ألقت الولايات المتحدة الأميركية أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، في لحظة انشقّ فيها الزمن، وصار ما قبلها لا يشبه ما بعدها. مات الآلاف في التو، وتبخر مَن كان يمر، مَن كان جالسًا، ومَن كان يُفكر في الغد، رجل كان يجلس على درجات بنك “سوميتومو”، على بعد أمتار من مركز الانفجار، لم يُعثر له على جثمان، بل على ظله فقط… ظل أسود محفور على الحجر، كأن جسده ذاب وترك توقيعه الأخير على عتبة الحياة.

“الظل الأخير.. حين تصبح الذاكرة أغمق من الضوء”

لم يكن ذلك الظل الوحيد، فقد عُثر على عشرات “الظلال النووية” متناثرة في شوارع المدينة وعلى جدرانه،. درّاجات، أجساد، أبواب، شبابيك… كلها تحولت إلى بقايا شكلية لما كانت عليه قبل ثوانٍ. الحرارة كانت عاتية لدرجة أنها بيّضت كل ما حول تلك الأشياء، بينما الأجسام التي امتصت الضوء منعت تبييض ما خلفها، فظلّت تلك الأماكن تحتها بلونها الأصلي، تشهد على من كان هناك.في هيروشيما، لا تتحدث الحجارة فقط عن الموت، بل عن “اللحظة”، عن تجميد الزمن على هيئة ظل،  ليس ظلًا كالذي نراه في شوارع القاهرة اليوم عند الظهيرة، بل ظلًا خُلق من غضب نووي، من ضوء لم يكن نورًا بل حتفًا.

 

“الظل الذي لا يُمحى.. ما تقوله الأرض حين يختفي الإنسان”

الظل الذي بقي محفورًا على درجات البنك في هيروشيما، عاش أكثر من عشرين عامًا، قبل أن يُنقل إلى متحف السلام، ليبقى شاهدًا على اللحظة، على الجريمة، على الإنسان الذي تبخر جسده وبقيت صورته.ذلك الظل لم يكن مجرد أثر، بل وثيقة مرئية عن أقسى ما يمكن أن تفعله الحرارة عندما تكون بأيدٍ خاطئ، وما أكثر ما ننسى اليوم أن للطبيعة قوانين، وللإنسان أن يُفسدها، وبين حرارة الشمس حاليا، وحرارة القنبلة فوق هيروشيما، يبقى الظل هو الأثر الأخير، والحقيقة التي لا تُنسى.