الطاقة النووية السعودية: أداة للردع أم طريق للتواصل؟

لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه. هذه القاعدة الفيزيائية تحكم الكثير من العلاقات الدولية خصوصا فيما يتعلق بمسألة موازين القوى.منذ أن أعلنت إيران عزمها التوجه إلى المسار النووي، طُرح سؤال لدى الخصوم التقليديين في دول الخليج وفي مقدمتهم السعودية: لماذا لا نسعى نحن الآخرون إلى امتلاك الأداة نفسها؟الإجابة كانت متوقفة على الرفض الأمريكي لسباق التسلح النووي بالشرق الأوسط، لكن ما إن قطعت إيران شوطا كبيرا على طريق امتلاك التكنولوجيا النووية، أعادت الرياض طرح مطالبها على الإدارات الأمريكية المختلفة خصوصا في ظل التحولات الكبرى التي جرت في الإقليم.الانسحاب الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط، والاتفاق النووي مع إيران، أثار المخاوف الخليجية من اختلال ميزان القوة لصالح طهران، فأصبحت المطالب بحيازة التكنولوجيا النووية أكثر إلحاحا.في عام 2018 أدلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بتصريح من العيار الثقيل قال فيه “إذا طورت إيران قنبلة نووية، فسنقوم بالأمر ذاته في أسرع وقت”. هذا التصريح لا يزال يُقرأ في واشنطن بعناية، وربما كإنذار مبكر بأن سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط قد لا يظل افتراضيا.رفض الإدارات الأمريكية المتعاقبة للسماح للسعودية بامتلاك النووي حتى وإن كان للأغراض السلمية، بدأ يتراجع مع إدراك واشنطن صعوبة إثناء طهران عن المضي قدما في مشروعها.ولأن كل شيء لدى الولايات المتحدة له ثمن، اقترحت المخابرات المركزية الأمريكية أن يكون السماح للسعودية بامتلاك النووي مقابل التطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل وتشكيل حلف عسكري يواجه المد الإيراني.الاتفاق النووي المزمع بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، يعكس أعمق التبدلات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، ويفتح بابا جديدا للرهانات الإقليمية والدولية على مستقبل السلاح النووي في المنطقة.ليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها ملف التعاون النووي المدني بين الرياض وواشنطن، لكنه يأتي اليوم في سياق تتقاطع فيه الحسابات الأمنية مع التطلعات التوسعية، خصوصا بعد التصعيد الإيراني وتداعيات حرب غزة.في منتصف أبريل، وخلال زيارة لها دلالاتها إلى المملكة، أعلن وزير الطاقة الأمريكي كريس رايت عن اتفاق مبدئي لتطوير الصناعة النووية المدنية في السعودية، مؤكدا أن البلدين “على مسار” تفاوضي، وأن التفاصيل ستُعلن لاحقا. وراء هذه الصيغة المعلبة لتصريحات الوزير الأمريكي، تكمن وقائع أبعد وأعمق تتعلق بصراع الردع المتبادل بين السعودية وإيران، ومحاولة واشنطن إعادة هندسة التوازن الإقليمي وفق أولوياتها الجديدة.الوزير الأمريكي لم ينكر قلقه من احتمالات “الانتشار النووي”، مستشهدًا بـ”اتفاقية 123” النووية، وهي المظلة القانونية التي تشترط ضمانات صارمة لمنع استخدام التكنولوجيا النووية المدنية لأغراض عسكرية. الاتفاقية لا تسمح بالتخصيب المحلي أو إعادة المعالجة، بل تشترط أن يتم استيراد الوقود النووي من الخارج. غير أن الواقع، كعادته، أكثر تعقيدا من نصوص الاتفاقيات المعلنة.في الوقت نفسه الذي كان فيه “رايت” يدلي بتصريحاته، كانت تجري في عُمان جولة تفاوضية بين واشنطن وطهران، لمحاولة احتواء البرنامج النووي الإيراني، الذي تخطى منذ سنوات الخطوط الحمراء التقليدية، وراح يقترب أكثر من العتبة النووية. في جملة اعتراضية، حسنا فعلت مصر حينما قررت التوجه لتوطين التكنولوجيا النووية وبناء مفاعلات يقال إنها لتوليد الكهرباء بالتعاون مع روسيا، رغم وجود فائض لديها من إنتاج الكهرباء بعد سلسلة المحطات التي أنشأها الرئيس السيسي، وسنترك القاريء لفهمه.رغم التكتم الرسمي، ثمة ما يشير إلى أن لدى المملكة برنامج تخصيب ناشئ، يستند إلى التكنولوجيا ذاتها التي استخدمتها إيران، والتي حصلت عليها من العالم الباكستاني الراحل عبد القدير خان، مهندس الشبكة النووية السرية التي ربطت بين إسلام آباد وطهران وطرابلس.كان من اللافت أيضا ما نقلته تقارير غربية من أن التكنولوجيا النووية الأمريكية كانت جزءا من “السلة السعودية” في مفاوضات التطبيع مع إسرائيل، إلى جانب طلبات أخرى تتعلق بضمانات أمنية ومعدات عسكرية متقدمة. إلا أن هذه السلة تجمدت مؤقتًا، مع اندلاع حرب غزة، وتراجع مناخ التطبيع إلى مرتبة أقل أولوية، على الأقل في العلن.بعبارة أخرى، بات الاتفاق النووي المرتقب جزءا من مشهد أوسع، لا يُقاس فقط بمدى حاجات السعودية للطاقة أو لتحلية المياه، بل بمدى شعورها بالحاجة إلى مظلة ردع إقليمية، توازن بها الطموحات الإيرانية، وتُثبت بها حضورها كقوة إقليمية.”اتفاقية 123″ نفسها ليست مانعا نهائيا أمام أي دولة ترغب بالتخصيب، كما تظهر تجربة الإمارات، التي وقعت الاتفاق عام 2009، لكنها احتفظت ببند يسمح لها باستئناف التخصيب في حال حصلت عليه أي دولة أخرى في المنطقة. ليصبح السؤال: هل تمنع اتفاقيات منع الانتشار النووي الطموحات النووية أم تؤطرها في مسارات قانونية؟السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية: هل تُمهّد هذه الاتفاقيات فعلًا لتطبيع سعودي إسرائيلي مؤجل، في إطار “صفقة كبرى” تعيد رسم الإقليم؟ أم أن الرياض تحاول أن تُراكم أوراقًا تفاوضية متعددة، توازن بها بين الضغوط الأمريكية، والانكفاء الإيراني، والانكشاف الفلسطيني؟في الخلفية، ثمة مأزق أمريكي حقيقي. إدارة ترامب تبدو مترددة بين خطاب معلن متشدد، يطالب إيران بوقف برنامجها النووي وتفكيك قدراتها التسليحية، وخطاب آخر أكثر براجماتية، يكتفي بتقليص نسب التخصيب والتحقق من السلوك، لا من النوايا. هذا التناقض ظهر جليا في تصريحات المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، الذي غرد منتقدا البرنامج الإيراني، ثم عاد ليصرح لوسائل الإعلام بأن بلاده تسعى للحد من التخصيب في إيران لا لوقفه تماما.في المحصلة، ستؤجل واشنطن دعمها لأي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران طالما بقيت المفاوضات جارية. بينما باتت دول الخليج، أكثر حذرا في تبني أي مواجهة مفتوحة مع طهران، وأقرب إلى منطق الاحتواء والتوازن، خصوصا في ضوء انخراطها المتزايد في علاقات مع إيران خلال العام الأخير، ورفض السعودية توجيه ضربة مباشرة لها قد تشعل المنطقة كما عبر عنها صراحة ولي العهد السعودي خلال القمة العربية الإسلامية في الرياض نهاية العام الماضي.التطورات التي شهدتها الرياض ومسقط في مسار المفاوضات يمكن اعتبارها مؤشرًا على بداية مسار جديد، صحيح أنه لن ينهي التهديد النووي الإيراني، لكنه سيسعى لاحتوائه، مقابل كلفة سياسية تتمثل في إبقاء ملف التطبيع السعودي – الإسرائيلي في الصورة.